أولُ بديلٍ لثدي الأم.
ولم تكن أمي، المشغولة بتوزيع حنانها بالعدل بين تسعة من الأبناء، تعتبر مص أحدنا لأصابعه فطنة خاصة منه بل إلهاما إلهيا للرضع المرضي عنهم، حيث تُجري الملائكة على أناملهم شهدًا بديلاً للبن الأم الكادحة.
والأصابع هي الموسيقى؛ إذ لا توجد آلة موسيقية يمكن العزف عليها دون الاستعانة بالأصابع، باستثناء حالات نادرة من تحدي الإعاقة يتابعها المشاهد بعينيه بوصفها معجزة، دون أن يكون شديد التطلب فيما يتعلق بمستوى العزف.
ومثلما يستطيع إصبعُ العازفِ أو قائد الأوركسترا إيقاظ الجمال النائم والأشواق الغامضة، فإن بعض الأصابع تمتلك قوة تدميرية غير محدودة؛ إصبع نيرون وإصبع هتلر وصدام حسين وميلوسوفيتش، وإصبع الطيار الأمريكي الذي ألقى بالقنابل على هيروشيما، متخذًا الخطوة الأولى في القرن العشرين لإعادة الانسجام إلى تاريخ دولة قامت على أشلاء حضارة أخرى.
وقد تابعت المسيرة أصابع جيل ثان من الطيارين الأمريكيين، أودت بحياة الآلاف من أبناء فيتنام وهيبة الولايات المتحدة، وفوق ذلك شرف كاتب هو جون شتاينبك، الذي دعته المخابرات الأمريكية لزيارة الجنود في فيتنام، وشارك في إحدى الطلعات الجوية فوقع في غواية أصابع الطيار، وعاد ليشبه لعبها على مفاتيح إسقاط القنابل بلعب أصابع عازف البيانو الماهر الذي يعزف أعظم كونشرتو في العصر الحديث!
وقد كان شتاينبك ملهمًا بقدر من عدم التوفيق لن يتسنى لكاتب من بعده، من أولئك الذين حاولوا إيجاد الذرائع للمعزوفات الأمريكية فوق بغداد والخرطوم وجروزني وكابول.
الأصابع هي كل المحارب، حيث لا يصلح للتجنيد رجل فقد أصابعه، ولذلك فقد كان الفلاحون الخائفون من قسوة التجنيد منذ قديم الزمان وحتى جلاء الإنجليز عن مصر يعمدون إلى قطع السبابة أو السبابة والوسطى لإعفائهم من غياب يشبه الموت. وكان الإصبع المقطوع يُدثر في كفن صغير وتُفتح من أجله المقبرة ليدفن كما يليق بعضو راح فداء لسنوات طويلة من غياب باهظ. أما الشاب الذي لم تكن تواتيه الجرأة لوضع إبهامه على الأورمة الخشبية تحت ساطور الجزار فقد أُلِفَتْ من أجل أمثاله المراثي والعديد الذي يُغنى وراءه عندما يقاد تنفيذًا لأمر “السلطة ” تمامًا كما يفعلون وراء نعوش الموتى.
ولا تذهب الأصابعُ فداءً للجسد فقط، فهي التي تفتدي الروح أيضا وتقدم لها العزاء عقب كل قرار خاطئ. يقولون:”عض أصابع الندم ” ويروي الإمام ابن حزم في طوق الحمامة عن فتى وفرت له المصادفة مبيت ليلة في بيت صديق غائب، وقد اشتهته الزوجة الجميلة صاحبة البيت وهم بها لولا أن تذكر الله فثاب ووضع إصبعه على السراج فتفقع، وأخذ يُذكِّر نفسه بنار جهنم ولكن الزوجة عادت إلى محاولاتها معه فعاد إلى الفعلة الأولى، حتى انبلج النهار على سبابته وقد اصطلمتها النار! ويقارن الدكتور الطاهر أحمد مكي محقق الكتاب بين هذه القصة والقصة التي ذكرها روزفييد في حياة الآباء عن راهب مسيحي من طيبة أحرق أصابعه في النار ليقاوم إغراء امرأة عارية.
على مستوى الحارة في الأحياء الشعبية المصرية يكفي إرعاش الوسطى لإشعال حرب بين امرأتين قد تمتد نارها لتحرق الرجال. وعلى العكس من ذلك تعمل طرقعة الأصابع بصورة غير مهذبه قوة ردع ترهب العدو، وتؤكد على أن الحرب مع صاحبة هذه الأصابع الحوشية لن تكون نزهة. والتفريق بين الوسطى والسبابة في شكل حرف V اللاتيني صار علامة كونية على النصر، مثلما صار طعن الإبهام للهواء باتجاه السماء أوالأرض علامة على النجاح أو الإخفاق، الاستحسان والاستهجان.
ولم تعد الأصابع تكتفي بإنجاز مهام الاتصال البذيئة بلغة الإشارة، بل إنها صارت بديلاً عن اللسان في الهذيان الجنسي المحموم لملايين من مستخدمي برامج الدردشة في الإنترنيت عبر العالم، الذين يديرون أقل الحوارات تهذبًا رقنًا بأصابعهم على لوحات المفاتيح.
مطاردات الشرطة للمشعوذين والتشهير بهم في الإعلام لم يفلحا في الحد من قدرة أصابعهم على الإيقاع بضحاياها من النساء المأزومات. تلجأ المرأة إلى المشعوذ لمساعدتها بتعاويذه في اصطياد رجل فيصطادها هو بأصابعه! يبني وهمه على الرقي والتعاويذ الغامضة والبخور، لكنه متأكد بأن سحره يكمن في أصابعه، ويبدو أن زكريا تامر اعتمد في قصته “امرأة وحيدة” على اعترافات حقيقية لامرأة مغرر بها؛ فيصف كيف جعل الشيخ سعيد عزيزة تغمض عينيها وتتعرى لاصطياد اخوته الجان الموشكين على الحضور؛ لأنهم لا ينفذون مطلبًا لامرأة إلا إذا وقعوا في غرامها. وبينما أخذ يرحب بالضيوف المتوهمين، كانت أصابعه الخشنة تهبط من الجبهة إلى العنق إلى نهدي عزيزة لتعتصراهما قبل أن تغيب المرأة عن الوعي ولا تعود تهتم بطبيعة الكائن الذي انتقل معها إلى الخطوة التالية.
تَفّرُد البصمة لدى كل إنسان أتاح للأصابع، دون غيرها من الجوارح، شرف الشهادة على وثائق الملكية وصحيفة الحالة الجنائية وسائر المعاملات المهمة في حياة البشر.
حركة السبابة من الخليفة أو السلطان، كانت تكفي لإرسال أحد الشعراء إلى السياف أوالصرّاف. وقد اقتطعت إشارةٌ من يد عبد الناصر عامًا من حياة صحفي شهير استهلك فيه ما لا يحصى من فناجيل القهوة في مقهى البن البرازيلي، مستغرقًا في محاولات تفسير إشارة يد الزعيم: هل أرعش الوسطى أم لوح بالسبابة؛ لأن كلاً من الحركتين يدفع إلى مصير مختلف. ورغم أن التهديد لم يكن جديًا؛ فقد كانت نتيجة هذا الخوف غير المبرر كتابًا في ذم عبد الناصر بعد وفاته، استخدمه الصحفي مسوغًا لبداية علاقة حميمة مع السادات.
كانت تلك إحدى الحركات العابرة، وربما المتوهمة، من إصبع الزعيم، أما حركته الأشهر والأخطر فكانت ضغطة إصبعه على زر التفجير في أسوان في التاسع من يناير 1961 إيذانا ببدء مشروع السد العالي، وهي حركة الإصبع الأكثر وبالاً في تاريخ مصر والعالم العربي، لا بسبب ما يشاع من تخرصات حول المشروع العملاق الذي أعاد خلق مصر؛ بل بسبب هوس الإصبع أو هوس الزر الذي تلاها وأصبح لصيقا بمفهوم الزعامة. وقد كلفت المحاكاة البائسة لضغطة عبد الناصر الخزائن العربية العامة بلايين الدولارات في مشروعات عديمة الجدوى، أقيمت خصيصا من أجل محاكاة ضغطة عبد الناصر الخالدة.
ضغطة إصبع أمير الشعراء أحمد شوقي على خده في وضع التفكير كان لها أثر مشابه لأثر إصبع ناصر، ولكن في مجال الثقافة، حيث بات الخد المكان المفضل لأصابع عدد كبير من المتنطعين على الكتابة، الذين لم ينبههم أحد إلى المكان المناسب لوضع أصابعهم.
ذلك الوضع الشهير لحركة التفكير في الفوتوغرافيا، يكاد يكون حالة نادرة من حالات تلبس الإصبع بالشهادة الزور؛ إذ يكاد الصدق يكون فضيلة أساسية لهذا العضو، ولذلك فحركته مفيدة جدًا في قراءة أفكار ونوايا الحكام أوالمرشحين ليكونوا حكامًا. خطابات السياسيين يكتبها صيادون لمشاعر الجمهور محترفون. ولكن لحسن الحظ أن أولئك الذين يُدعون إلى التدخل بين الزعيم ـ أو الزعيم المحتمل ـ ولسانه ليس بمقدورهم أن يتدخلوا بينه وبين أصابعه. والنتيجة غالبًا خطابات شديدة البؤس، كأن شريط الصوت من فيلم رُكِّب بالخطأ على شريط الصورة من فيلم آخر. وقد وفر عصر البث المصور الفرصة الديمقراطية للرعية للاختيار بين الكلمات التي تقطر تواضعا وامتثالاً لإرادة الجماهير وبين تلويحة السبابة التي لا تكف عن التهديد. والتلويحة أصدق لمن يُحسن القراءة.
وحدها أصابعُ اليمين في إسرائيل ـ التي تهدد باستمرار ـ تبدو بلا معنى أو بالأحرى دون قوة إضافية؛ حيث تتساوى في عدد الجرائم ضد الإنسانية مع أصابع اليسار التي تذبح في صمت، وتكفي مقارنة سريعة بين نتنياهو ورابين أو بيريس لتبيان هذه الحقيقة. أما الأصابع التي تعد الأبرز في انعدام النفع؛ فهي أصابع بيل كلينتون، حاكم العالم على مدى ثماني سنوات. الرئيس الأكثر فتنة في القرن الماضي كان يطرح أصابعه غير الواثقة مهملة كمروحة اكتشفتها سيدة في يدها في أكثر الليالي برودة. وقد كان عدم ثقته بأصابعه السبب الأساسي وراء إخفاقه في الحرب والحب، إذ أسفرت تهديداته لصدام عن الإيذاء البالغ لحضارة العراق وأطفاله دون إلحاق ضرر يذكر بديكتاتور استهلك في المواجهة ثلاثة رؤساء أمريكيين بينهم رجل وابنه، كما أن القصف الوحشي ليوغسلافيا أسفر عن تدمير قوة شعب بينما ظل سلوبودان ميلوسوفيتش طليقا لم يتم تسليمه لمحكمة جرائم الحرب إلا بالحيلة في صفقة قيمتها مليار دولار بين الحكومة اليوغسلافية وبوش الابن، الذي اعتمد دبلوماسية الدولارات مثل العربية السعودية. أما الدليل الأكبر على انعدام ثقة كلينتون في أصابعه فقد تجلى في استخدامه السيجار كإصبع تعويضي في علاقته بطوربيد الغواية مونيكا لوينسكي، التي لم تجد ردًا على الفضيحة أبلغ من الانتحار بأصابع الشيكولاتة التي أفقدتها لياقتها الجنسية.
ولسنا بحاجة إلى ذكر الأصابع الأكثر خسة: أصابع نبش القبور والأصابع الخفية في كل جريمة، وهي تجمع بين الإجرام والجبن؛ فهذه استثناءات لا يقاس عليها، بينما لا يعز الفعل الحسن حتى على أصابع الشيطان. وتنسب المخيلة الشعبية لإصبع إبليس طابع الحسن في البطن البشري، إذ تقول الأسطورة إن الله بعد أن سوى آدم من الطين تركه يجف في الهواء وعندما مر إبليس تعجب، ومد إصبع الدهشة متسائلا: ما هذا ؟! فكانت السرة.
بعد تلميح العين أو دونه، تقدم الأصابع أول تصريح ملموس بالحب، إذ تقوم بعمل العين لدى عميان العالم الذين يصل عددهم في بعض التقديرات إلى مائتي مليون إنسان. ولن يكون بمقدور بعض الأزواج الأقل احترامًا لإمكانيات الأصابع تفسير الموقف العدائي من زوجة مخلصة تجاه صديق لم يبدر منه ما يشين؛ لأنهم لم يتلقوا في أيديهم الرسالة التي وصلت الزوجة في مصافحة الشكر عقب انتهاء السهرة. وفي المقابل تنشأ العديد من العلاقات عقب مصافحات من هذا النوع، وقد يكتشف الزوج المخدوع العلاقة في نهاياتها وقد يدين تربية العاشق أوالعاشقة ويعيد تأويل نظراتهما أو نبرات صوتهما عبر اللقاءات السابقة، وقد يدين غفلته الخاصة، دون أن يتطرق ظنه إلى حركة الأصابع المغوية فوق أو تحت مائدة جمعت ثلاثتهم ذات ليلة.
في رواية عرس بغل لـ الطاهر وطار كان شيخ التجويد في جامع الزيتونة يأخذ بيد الغلام بينما يعلمه القراءات السبع. وعندما حاول الصبي أن ينزع كفه من يد الشيخ نهره قائلا: لا تقطع الصلة الروحية بيننا. استسلم الغلام لحركة أصابع الشيخ المريبة. وانتهى به الأمر إلى التشوش، وأصبح فيما بعد الحاج كيان المتفرغ لبنات الهوى. وفي بيت الجميلات النائمات العجيب الذي بناه كواباتا لتقديم متعة التذكر لزبائن لا يجلبون المتاعب يصل العجوز إيجوشي البيت ويتلقى تعليمات المدبرة في السطر الأول من الرواية “وأرجو أن تتجنب المضايقات السمجة، لا تحاول وضع أصابعك في فم الصغيرة النائمة!”
السيدة تتخذ الاحتياطات الممكنة وتعطي زبائنها الطاعنين في السن حصصهم من المنوم قبل أن تسمح لهم بالمرور إلى غرف الفتيات المنومات سلفا، ومع ذلك تبقى لهذا التحذير وجاهته؛ فالأصابع آخر ما يتبقى من المحب في الفراش، وهذه حقيقة لا ينكرها الرجل الشريف، ولكنه يؤجل إعلانها إلى آخر وقت ممكن، كما أن قليلا من النساء لديهن الجرأة على الحديث عن شرعية التيمم في غياب الماء. ولهذا تعيش الأصابع مهضومة الحق، فلا نعرف أبدًا حجم إسهامها أو طبيعة عملها داخل تعقيدات أية علاقة.
وربما تيسرت مصادفة بلهاء في الكشف عن الدور السري للأصابع الذي يأخذ شكل الفضيحة أحيانا، في مثل حالة رجل ترك زوجته وأولاده مهرولاً باتجاه صديقه القديم لينتحي به جانبًا ويسأله: ليلة زفافي، منذ خمسة عشر عامًا سألتك خبرتك فنصحتني بثلاث جوارح، إصبعي ولساني وماذا أيضا ؟
ليست الأصابع مجرد مدد أخير للضعيف، كما تريد هذه النكتة أن تقول؛ بل إنها دائما هناك مع المحبين ترتفع ملامساتها العذبة بفعل الحب إلى مستوى الشاعرية، ودونها يبقى هذا الفعل مجرد مضاجعة خرقاء تقود العلاقة سريعا إلى نهايتها.
وإذا كان الرجال ينكرون أفضال أصابعهم على أنفسهم؛ فإنهم ينكرون أكثر فضل أصابع المرأة، التي تبقى واحدة من التفصيلات المهمة جدًا في جسدها، تفصيلة تمتلك قيمة جمالية عالية دون منفعة عملية محددة أو بالأحرى ضررها أكثر من نفعها، إذا تحمل جيب الرجل ميزانية تجميل أظافرها.
وقد أفاض العرب في وصف الأنامل المخضبة، شأنهم مع كل تفصيلة في الجسم. لكنهم حصروا فضائلها في النحافة واللين والبياض وحمرة الرؤوس، دون الخوض في فوائدها أو مشاعر الحنان التي تختزنها. كانوا مخلصين للطبيعة الصامتة التي يرسمونها بمفردات من البيئة الصحراوية الفقيرة: أعواد نبات الإسحل (الذي يتخذون منه المساويك ) والعنم (شجر غض الأطراف) والدود، كما جاء في وصف أمير شعراء الجاهلية امرؤ القيس ابن حجر:
وتَعَطُو برخصٍ غيرِ شَثنٍ كأنه أساريعُ ظبيٍ أومساويكُ إسحلِ
والأساريع مفردها أسروع، وهي دود بيض حمر الرؤوس شديدة الغضاضة. وربما كان تشبيه الأصابع بالدود جميلا في زمن امرؤ القيس، ولكنه لم يعد يناسب أحفاده من المسلمين بقدر ما ينتمي إلى ذائقة التايلانديين..هي إذًا أصابع قومية اعتراها التحول إلى قومية أخرى، بينما تستطيع البشرية كلها أن تتأمل اطمئنان الخالدين في أصابع أبي الهول وأصابع الإله رع التي تمتد كل صباح من قرص الشمس لتهب الحياة للكائنات، وأصابع الجمال المغوي للآلهة في كف نفرتاري التي تحتوي القربان بحنان عش.
ويبدو أن الأصابع لن يكتب لها أن تعيش المجد الذي نالته في الحضارة الفرعونية، حيث تفيض أصابع الملوك بمظهر القوة في القبضة على الصولجان، وهي نفس قبضة رمسيس الثاني على القوس فوق عجلته الحربية، وفي غير هذين الوضعين يرسم الفنان المصري اليد ممدودة على الدوام، بينما يتلقى الأسير أقذع هجاء وأكبر إهمال برسم أصابعه مبهمة بخطين يفتقران ـ عمدا ـ إلى الإتقان.
الملمح الأبرز لأصابع الرجال في الفن الفرعوني هو الاستقامة، على الأقل أصابع يد واحدة، إذا قرر الاحتفاظ للأخرى بانحناءة الرحمة، بينما تقدم أصابع النساء دائما في انحناءة إغواء. الإصبع جسد أنثوي كامل، حيث تبدو الأصابع اللينة المخضبة في خجل سرب من النساء خرجن من البحيرة ليكتشفن سرقة الملابس التي تركنها على الشاطئ، أما حركة الأصابع الأجمل والأكثر محاكاة للطبيعة في التاريخ فيقدمها الفنان المصري في يد إيزيس وهي تمنح زهرة لوتس للإله، حيث ينفتح الخنصر والبنصر والوسطى في حركة مروحية تحاكي تفتح الزهرة نفسها، بينما يبقى العود الدقيق للزهرة معلقا برقة بين السبابة والإبهام.
لم ينس الفنان المصري مشاعر العضو اللطيف، فخلد الأصابع الأكثر حزنا في التاريخ بلوحة النساء الباكيات بجدار مقابر بني حسن، وهي اللوحة التي وصفها بيكاسو بأنها الأجمل في التاريخ، ولابد أنه نقل عنها حزن أصابع مرحلته الزرقاء، أما الأصابع الأكثر تعبيرية لدى بيكاسو شخصيا فقد رسمها للمرأة المنتظرة. في تلك اللوحة لا نميز شيئًا من ملامح المرأة أو مشاعرها، لكن الإحساس بفراغ الصبر يتجلى في الكف المطوية على الخد وحركة الأنامل المخضبة مثل رؤوس زغاليل تستطلع الموقف استعدادًا لتجربتها الأولى في الطيران.
سجادة المجد التي فرشها التشكيل للأصابع تبدو بامتداد لا نهائي، ولا يمكنني المتابعة إلى الأبد، فالكتابة في النهاية محكومة بقدرة القارىء على الصبر. ولكن لا نستطيع المغادرة قبل الإشارة إلى قوة كن في الإصبع الخالق لأبينا بلوحة ميكل أنجلو في كاتدرائية روما، والبؤس في أصابع فان جوخ والخنوثة المغوية للجنسين في أصابع مودلياني، والأنوثة التي تنـز من أصابع نبوية ( موديل محمود سعيد ) وتصلح تميمة لحماية الذكور من ضلال الميل إلى ذات النوع.
ورغم كل ما رُسم من أصابع وما كُتب عنها، يبدو المسكوت عنه أكثر من المعلن، كما أننا لم نحظ بما يكفي من صراحة النساء بشأن أصابع الرجل المحجوبة بتفاصيل نفسية وفيزيائية كثيرة تسبقها. نعرف الكثير من نساء افتتن بوسامة رجال، ولم يؤثر عن امرأة أنها سلمت نفسها لرجل افتتانًا بأصابعه تحديدًا، ولكن نشيد الإنشاد الذي لسليمان يقدم في هذيان المرأة المقدس أكثر الاعترافات حسية “حبيبي مد يده من الكوة فأنَّت عليه أحشائي “.
بالنسبة لي؛ انتظرت كثيرا قبل أن ينبهني إلى تميز أصابعي سفير لدولة أوروبية صغيرة. كنا نجلس في مقهى الفيشاوي، نتناقش في الثقافة والسياسة ونتبادل رواية النكات. وفي لحظة صمت استغرقتها مع الشيشة ابتدرني قائلا: لك أصابع جميلة. وقد أربكتني ملاحظة الرجل الذي لم أكن أعرفه جيدا ـ رغم إنها لم تكن الملاحظة الأولى لرجل على أصابعي ـ فقلت له إن أحدهم قال لي ذلك ذات مرة، وخفت أن يكون شاذًا.
السفير الذي أوجعته ملاحظتي قال في تسامح ودون أن يهتز: لا ليس شرطا، إنك تتمتع بأصابع جميلة حقا، ثم سألني مباشرة: ماذا يعمل ذلك الرجل ؟ قلت: شاعر. قال: أرأيت ؟!
السفير أيضا كان شاعرًا، وبهذه الصفة جلس معي، أما الشاعر الآخر فكان بمثابة الأب الروحي للبنت التي أحبتني بجنون، وقد استقبلنا في بيته بحفاوة بالغة. وعندما تحدث معها بعد ذلك نصحها بأن تتمسك بي لعدد من الصفات توسمها فيّ، ثم أضاف في تواطؤ:”علاوة على أن له أصابع جميلة “. ورغم أسفي على أن تقدير أصابعي جاء في المرتين من رجال، إلا أنني لم أفقد الأمل في أن يأتي هذا التقدير يومًا من امرأة. وحملني هذا الأمل على طرح أصابعي بشكل يبدو عفويا أمام من أقابل من الجميلات، إلا أن ذلك لم يغير شيئا من سوء حظي، لأنني في الواقع لا أذهب معهن إلى أبعد من ذلك، بينما يحتاج إغواء النساء لأشياء، ليست في سهولة ومجانية تناسي الرجل لأصابعه على طاولة في مكان عام.
ربما لا تقف قوة الأصابع عند حدود منح المتعة والصبر للرضع أو المتعة مع فراغ الصبر للناضجين؛ فأصابع سليمان الممسكة بالعصا منحته مظهر الحياة فمدت سلطانه على الجن سنة إضافية بعد وفاته. والأصابع لديها القدرة على أن تمنح الحياة ذاتها، ولكن هذه المهمة لا تكون إلا في حالات العشق الخارقة، وقد تيسرت لي معرفة حالة من هذا النوع.
في بيئتي القروية التي يعيش فيها الإنسان وحيواناته تحت سقف واحد، عرفت امرأةً شديدة النظافة، استمدت قوتها من كونها امرأة بلا مورد، وبالتالي لا حيوانات لديها. وكان المرور من أمام دارها الصغيرة المعتنى بها جيدا وقت القيلولة يغمر المرء ببرودة منعشة محملة بخليط من رائحة الكحل والقرنفل الذي تعطر به ماء قلل تنـزو باستمرار. أما أهم فضائلها فهي أنها كانت عاقر بلا ولد يقيد انتقالاتها المتلاحقة بين بساتين الرجال أويفسد بصخبه ومطالبه صفاء خلواتها معهم، علاوة على أن مطالبها شديدة التواضع من أزواجها المتتابعين الذين كانت تتفرغ لتلبية أشواقهم وعبادة الله. كل هذه الأسباب جعلتها دائما زوجة ثانية مرغوبة من رجال أمَّنوا الذرية من غيرها ويبحثون عندها عن المتعة.
عندما سألتها عن أفضل أزواجها لم تكن تمتلك إجابة، لأنها لم تكن تفرق بين رجل ورجل؛ كانت فضيلتها الأساسية أنها تقدس الرجولة لذاتها، وتعتبر أن كل رجل من حقه أن يكون معبودًا بفضل إصبع واحد زيادة لديه فوق ما تمتلك المرأة.
آخر رجالها أصيب بشلل كلي جعله طريحا، فكانت تطعمه وتتلقى استفراغه في حجرها، وبعد ذلك تجلس طوال ساعات الليل والنهار تدلك جسده، وحتى لا تنقطع عن العبادة كانت تدلك بيد وتسبح بالأخرى. وعاش الرجل على هذا النحو أكثر من سبع سنوات، وتولد لدى أبناءه المتعجلين لتوزيع الميراث إحساس بأن الرجل سيعيش إلى الأبد بقوة أصابع الحاجة نفيسة، فافتعلوا معها مشكلة ظاهرها الكرامة، مدعين أنه من غير اللائق أن تداهم لحظة الموت المجهولة أباهم بعيدًا عن البيت الكبير. وفي الفجر نقلوا الرجل فيما يشبه حادث اختطاف أوسرقة بالإكراه. ومات في ذات اليوم كما لو أنهم قطعوا الأجهزة عن مريض في غرفة الإنعاش.
بعد أصابع الحاجة نفيسة، لم أعرف أصابع على هذه الدرجة من النبل، ومع ذلك تبقى الأصابع أكثر الجوارح نبلا فهي تمنح المتعة دون استفادة ذاتية أو هوى خاص، وقد اعتمدتها أجيال عديدة كوسيلة مأمونة من خطر الخذلان، في طقس الافتراع الذي لم يعد له وجود اليوم. كانت العروس تدخل إلى فراش الزوجية بصحبة عجوزين من قريباتها تباعدان بين ساقيها للعريس الذي يدفع بإبهامه المجلل ببياض الشاش أمام الشاهدتين من أهلها لضمان عدم التلاعب بالعرض.
أصبح هذا المشهد في حكم النادر الآن، حتى في أقصى أعماق الريف، ولكنه كان مألوفا وقت صباي في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين. وآخر ما أتذكره اليوم مشهد قريب لي أصابته فرحة لم يسيطر عليها بعد إنجـاز المهمة فأخذ يردد على المرأتين” دي حاجة سهلة خالص ” ولم يتسن للسر أن يبقى بين أطرافه الأربعة، فقد خرج العريس إلى المهنئين أمام باب الغرفة يلوح بالشاش المخضب بالدم، دون أن يتوقف عن ترديد عبارته التي صارت قولا مأثورًا إلى اليوم.
————————————————————————-
فصل وقع الأصابع من كتاب “الأيك في المباهج والأحزان”.