أن يصدر لك كتاب جديد هذه الأيام مثل أن يولد لك طفل في الأسر.
قد يفرح الأسير بقطعة الغيار الجديدة التي اندفعت من جسده لتوسع من فرصته في الحصول على الحرية مستقبلا، ولكنه في الوقت ذاته لا يستطيع إلا أن يستسلم للحزن إشفاقا على المولود المصادرة حريته سلفا.
ولا يستطيع الأسير إذا ما تفكر إلا أن يخجل من هروبه، إذ ينشغل بمد عمر عبوديته عبر ما يتيسر من حياة لمولوده بينما كان ينبغي عليه أن يموت دفاعا عن حريته.ومثله الكاتب يرجئ المشكلة إلى زمن آخر.
أن يصدر لك كتاب في هذا الزمن الملتبس فهو حدث يضعك على السواء مع سلطان جائر.. أليست الكتابة ـ مثل السلطة في المكان العربي ـ امتيازا خاصا يمنحه الكُتّاب لأنفسهم دون تفويض من أحد ؟
الديكتاتور والكاتب يرطنان اليوم جدا أو هزلا ويجدان من يضفي على جدهما وهزلهما صفات الحكمة ومن يعتبر ما يقولان مشاركة في الفعل، للديكتاتور كُتّاب الافتتاحيات وللكاتب نقاد الأدب.
وكلا النوعين يبجل فعلا من لم يفعل،بينما الأطراف كلها تعرف أن “الفعل” الوحيد الشريف هو أن يلف الإنسان نفسه بعشرة كيلوجرامات من المتفجرات ويمضي إلى حيث يجب أن يمضي، لا أن يفكر في إنجاب طفل أو كتابة كتاب أو تدبيج خطبة.
ربما كانت الكتابة في المكان العربي بالذات سيئة الحظ بوقوعها ضحية أفعال الآخرين، لكن هذا هو ما حدث في الواقع.كادت الكتابة تفقد شرف الفعل المقاوم لأن الآخرين لا يشتغلون أشغالهم. جيمس جويس كان ينتقل من ملجأ إلى ملجأ هربا بمخطوطة “عوليس” بوصفها ذاكرة دبلن، واعتبر النقاد إنقاذه عوليس فعلا مقاوما من الدرجة الأولى لأن الأيرلنديين الآخرين كانوا يقاومون بطرقهم الخاصة، تاركين للكاتب طريقته.
لم تكن لغة جويس مستباحة كما هي لغة الكاتب العربي اليوم، التي صارت بديلا مريحا لكل فعل. وربماكانت أيرلندا بحاجة إلى تأسيس ذاكرة قوية في عقل سليم، بينما نحن العرب لدينا ما يفيض عن حاجتنا من الذاكرة ولا عقل لنا.
أن يصدر لك كتاب في مجتمع متواطئ قانونه الأساسي الزيس والبرطيل والرشوة؛ فهو أمر مشكل ،حتى لو لم تكن مهددا بالزوال من قبل صهيونية يتنامى عدوانها من داخلها كما يولِّد البركان ناره.
قد يستريح نصك لقانون المجتمع ويتلقى رشوته راضيا، وتجلس أنت وراءه بقناع الكاتب السعيد الذي يستقبل مديحا من فوق منصة بائسة فصلت أربعة من الأصدقاء لساعة أوبعض ساعة، في مشهد تمثيلي يتأسس على تواطؤ مريح يضع اثنين في وضع المبشرين واثنين في وضع خراف الله الضالة التي ينبغي أن تستمع وتطيع وتؤمن بالنص. ولن تؤمن لأن المبشرين أنفسهم يفتقدون الإيمان،واللعبة مكشوفة ؛ حيث تهاتف الأربعة أو الخمسة قبل أن يذهبوا إلى الندوة.
ـ هل أنت ذاهب إلى ؟
ـ لم أقدر على إكمال الكتاب، ولكنني سأذهب لأقول كلمتين..واجب.
ـ أنا أيضا سآتي لأستمع، لقد هاتفني وألح!
من حقك أن تضن بنصك على قانون الزيس دون أن تتحول عزلتك إلى وجه آخر للقانون ذاته وطقس يبحث عن الحضور بهذا الغياب المقصود، فالكاتب في النهاية ليس بهلولا ويسعده أن يصادف عمله نجاحا حقيقيا يعثر عليه في إعجاب قارئ.
صن وجهك من بؤس القناع السعيد، ونصك من بؤس المديح المجاني ،ولكن عليك أن تتذكر قسوة المجتمع في تطبيق عقوبة الخروج على القانون.
تعلم من نظرائك في السياسة ؛ وقع بعض النسخ وضع رفضك للعملية في “بيان متوازن ” يمثل تقدما ؛ في أي اتجاه ؟ ليس مهما. ويمكن الحوار بشأنه، بشأن ماذا؟ ليس مهما.
المهم ألا تتورط بالوقوف في البؤرة حضورا أو غيابا كي تتمكن من طرح سؤالك في صفاء حزين: هل من حق الأسير أن ينجب طفلا أو يصدر كتابا.