في اللحظة الأولى لاكتشاف العري الإنساني شرع الأبوان يخصفان عليهما من أوراق الجنة يداريان سوأتيهما. ومنذ تلك اللحظة لم تتحول البشرية عن المراوحة بين رغبات الكشف والإخفاء روحًا وجسدًا.
تتعذب الروح وهي تتقلب بين رغبات البوح وضرورات كتمان السر ومثلها يراوح الجسد ـ بعذاب أقل ربما ـ بين رغبات الاستعراض وضرورات الاحتشام. ولكننا لا نصارح أنفسنا بتلك الحيرة، بل نموهها بوظائف الثوب الأكثر علنية وقبولاً مثل الوقاية من البرد والحر، وربما الوقاية من لسع الحشرات والهوام. وربما نتمادى وننتبه إلى وظيفة الثوب كبطاقة هوية وطنية مشرعة في مواجهة الآخر المختلف، وهوية طبقية في المجتمع الواحد.
الثوب الهوية جعل كل الديكتاتوريين الذين لا يحكمون بالعقل يتزيون بأثواب تعكس ما يريدونه من قراراتهم. هتلر وموسوليني حبسا جسديهما في البدلة العسكرية ليفرضا هذا النمط على مجتمعيهما، صدام هجر البدلة المدنية في وقت الحرب، وارتدى عباءات نفاقًا للقبائل عند زياراته للمناطق البدوية، ومثله فعل حافظ الأسد الذي ترك لسكان كل منطقة سورية تمثالاً في زي رجالها، أما عارض الأزياء العربي الأشهر القذافي فقد تقلبت ألوانه بين العربي والإفريقي وبقيت خطوط أزيائه اختراعًا خاصًا بمصمميه تجعل من القذافي جنسًا مراوغًا فوق تصنيفات المؤنث والمذكر.
الوظائف العلنية كلها حقيقية تنجزها الملابس باقتدار، لكن وظيفة إبراز وإخفاء الجمال البشري تبقى الوظيفة الأولى للثياب نسعى إليها ونسكت عنها في الآن نفسه. لا يحتاج المرء إلى الكثير من الفطنة ليكتشف العاشق والعاشقة من خلال اهتمامهما بالملابس، ولا يحتاج المخرج السينمائي أو الكاتب لأكثر من تغيير نمط الثياب لكي يقول إن شخصًا ما وقع في الحب.
ولولا الوظيفة الجمالية لارتدينا مقاطع من القماش كيفما اتفق، ولولاها ما ظل الشرق شرق والغرب غرب لا يلتقيان!
يبدو الشرق أكثر إخلاصًا للحيرة، أكثر اعتزازًا بالمراوغة، لهذا يظل موطنًا للسر والإثارة بأكثر من الغرب الذي يمضي في طرق مستقيمة ويعيش النموذج المطلق للإخفاء والنموذج المطلق للكشف بتتابع يكشف عن الكثير من أسباب الضجر الذي يقود إلى المزيد من التغيير.
لا يغلق الثوب الشرقي باب الجسد ولا يتركه مفتوحًا تمامًا، بل مواربًا، وأكثر مثال على هذا ارتداء المرأة لما يسمى بـ
“الملاءة اللف” في الأحياء الشعبية المصرية، التي جسدها الفنان محمود سعيد في لوحته الشهيرة “بنات بحري”.
ترتدي المرأة العباءة فوق القميص الداخلي وتمسك بدفتها بيمينها، وفي الحركة المروحية للذراع تنكشف خيالات عن الجسد، فلا أحد يستطيع أن يتحقق منه تمامًا والأعمى فقط يمكنه الادعاء بأنه لم ير.
هذه المراوغة ساهمت في نشأة الاستشراق وجذبت إلى الشرق (من اليابات إلى المغرب) أفواجًا من المغامرين الباحثين عن متعة الحوار مع الحواس، قبل أن يتحولوا إلى علماء نابهين وجواسيس وطلائع لقوى الغزو.
في كتابه “إغواء الغرب” الذي ترجمه محمد سيف ينقل أندريه مالرو شعور صديق عائد من دمشق: “لقد فاجأتني الاستثارات التي أيقظتها في داخلي أول الأقطار الإسلامية التي زرتها، المحجبات اللائي رأيتهن يسرن متمهلات في الشارع، يتبعهن خدمهن، كان ظلهن يتقدمهن بطيئًا على سور عال شرع في السماء خطًا منحنيًا من الشرفات الحمراء. ودفعني الفضول لتحليل الاضطراب الحسي الذي سببته الطريقة التي وضعن بها خمرهن على خدودهن”. متعتا الغموض والبطء اللتان التقطهما عينا الزائر ـ الفرنسي ـ وربما عينا مالرو نفسه في حركة النساء هما الأصل الذي نشأ عنه فن الرقص الشرقي.
المراوغة الشرقية تسحر الأوروبيين، لكنهم لا يستطيعون التصرف بمثلها، ربما لأنهم وضعوا كل طاقتهم على المراوغة في السياسة؟ ربما، لكنهم بالنتيجة لا يتقنون المراوغة في الحياة الاجتماعية، وبينها عاداتهم في الثياب؛ فهم لا يعرفون إلا السير في الخطوط المستقيمة إلى آخرها احتشامًا وتعريًا.
في كتابه “تاريخ الجمال” يقدم الفرنسي جورج فيغاريلو قصة الجسد وفن التزيين من عصر النهضة الأوروبية إلى العصر الحديث. الكتاب الذي ترجمه جمال شحيد وصدر مؤخرًا عن المنظمة العربية للترجمة يدرس نماذج الجمال الأنثوي والذكوري، أشكال الأجساد والعيون، من السمنة إلى النحافة، ولم يكن بوسعه أن يتحاشى تاريخ الملابس؛ فهي إطار اللوحة الذي يحددها ويبرزها. يبدو الثوب خادمًا للجسد أحيانًا وأحيانًا يبدو سيدًا؛ حيث تصاغ الأجساد لتكون صالحة للنموذج الذي اخترعته الموضة.
من خلال اللوحات الفنية والنصوص وإعلانات الأفلام والمسرحيات، التي تتبع فيها فيغاريلو معايير الجمال نكتشف تطابق التواريخ الثلاثة للجسد والفن والملابس. وهي رحلة واحدة صعبة قطعتها أوروبا، منذ المحاولات الأولى للخروج من سلطة الكنيسة في القرون الوسطى.
يبدأ من مقارنة بين لوحة آلام المسيح لسيمون مارتيني عام 1340ولوحة الصلب لمانيتينيا عام 1456، أكثر من مائة عام احتاجتها اللوحة للخروج بالأشخاص من الغرق في الملابس الفضفاضة إلى حبكة القامات وإبراز بعض تضاريس الجسد. وقد استغرق الفن قرونًا من الحركة ليصل إلى كامل الجسد حيث تتحكم تراتبية المرئي هبوطًا من أعلى إلى أسفل؛ من فن البورتريه إلى الاهتمام بالجزء العلوي من الجسد وصولاً إلى الخصر ونزولاً إلى الساقين.
كان هناك اعتقاد بوجود أعضاء نبيلة وأعضاء محتقرة، وتركز النبل في القسم العلوي من الجسم، بينما ينبغي إخفاء الأجزاء السفلى، هكذا طغت موضة الفساتين المنتفخة تحت الخصر، فيبدو هذا القسم مثل قاعدة حجرية للتمثال المتباهي بطول العنق وضيق الخصر وارتفاع الصدر، ولم يكن بذخ التطريز في الأسفل إلا محاولة لإخفاء هذا الجزء بطريقة أفضل.
كما لو أن يد الخياط كانت تتبع خيال الشعراء الذين لا يذكرون من الجسد إلا الأعضاء العلوية. وقد فرض الالتزام الصارم بالمواصفات الجمالية تعذيب الجسد بالمشدات ليصبح لائقًا. ولم يبدأ الجسد في ممارسة حريته قبل القرن السابع عشر،حيث تتوازى الحرية السياسية مع حرية الجسد ويبدأ التمرد تدريجيًا على المشدات والطارات المعدنية. وستنتظر أوروبا حتى نهايات القرن الثامن عشر لكي تكتشف جماليات الجسد المتحرك بعد حماليات التمثال وتدخل موضة الفساتين القصيرة اللوحة التشكيلية.
ولم تتحقق حرية الـ “تحت” كاملة إلا في بدايات القرن العشرين وأصبحت الخطوط الجسدية مرئية جدًا. وسرعان ما خلق الانفجار السينمائي نماذجه وعممها على المجتمع الأمر الذي فرض مزيدًا من العمل على الكميائي وجراح التجميل والخياط للوصول بالجسد إلى مستويات الجمال في عالم الصور الخيالي.
يولد النجم أو النجمة السينمائية ليلبي تطلعًا محددًا لدى المشاهد في وقت محدد، ومن أجل صنع هذه الصورة يعمل مقص الخياط في الاتجاه المطلوب، فكانت نماذج الرجولة والأنوثة واضحة في وقت ما، وفي أوقات أخرى فرضت نزعات الرومانسية ودعوات المساواة تقاربًا بين الجنسين؛ فاستعار المذكر بعض جماليات المؤنث من دون أن يتوحد نموذجا الجمال في نموذج واحد.
سارت الأزياء على خطى الفن مدفوعة بسياط التسويق الذي يستفيد من كل شيء؛ حتى التمرد على الرأسمالية ذاتها ظهر في ملابس الهيبيز. لكن الموضة الغربية التي تتطور يومًا بعد يوم تمضي في اتجاه إلى آخره وقد تنقلب عليه، بينما لا يعرف الشرق هذه الانقلابات بفضل المراوغة، مصدر السحر ومصدر الثبات في الآن ذاته.
لكن الغموض والمراوغة ليسا السمة الوحيدة للملابس الشرقية، بل إنها تبرز الكسل والشكلانية الفارغة التي تتنافى مع الحياة العصرية، بينما يعتبرها الكثيرون ترمزيزًا لانغلاق الفكر. ومنذ خلعت هدى شعراوي حجابها وداسته في ميناء الإسكندرية عام 1923 هي وزميلتها في الكفاح السياسي سيزا نبراوي، صار ارتداء الزي الغربي دليلاً على التحرر والعصرية في المراكز العربية المختلفة في تواز مع حراكها السياسي.
في النصف الأول من القرن العشرين انحسرت الأزياء الشرقية في الطبقات الشعبية. ومع زيادة نسبة التعليم في النصف الثاني من القرن وربما بفضل الثقة التي اكتسبها الإنسان العربي في فترة الد القومي صارت الأزياء الغربية الأكثر عملية مقبولة على نطاق واسع؛ فظهرت الفساتين القصيرة والبنطلونات، وولى زمان الملابس التقليدية التي تحولت إلى فلكلور شعبي مكانه متاحف الفنون الشعبية وأحيانًا بازارات السياحة، قبل أن تأتي مساهمة الدراما التليفزيونية في إحياء الملابس الشرقية التي التي تتناول فترات تاريخية معينة.
ومثلما انكسرت موجات التحرر الفكري، انكسر الجسد وأصابه الخوف من الآخر، ودارت حروب الهوية في الأزياء، وخصوصًا أزياء المرأة التي صارت رايات تجسد الاختلاف.
ومثل كل حروبنا، لم تضع حروب الملابس أوزارها بعد، ولن تنتهي بغالب أو مغلوب. لن يحقق أحد الاتجاهين النصر الكامل ولن يعرف الهزيمة الكاملة، بفضل الطبع الشرقي المتأصل: المراوغة!
عاد الفضفاض السابغ متجهم السواد وسرعان ما دخلته الألوان في لون الثوب كله أو في التطريزات الباذخة التي أفرغت الأسود من تشدده. وتمسك الجديد بالمقاومة مع طرح خيار التفاوض في شكل أحجبة على الرأس فوق السراويل والبلوزات الضيقة، مع محاولات لكسب الأرض في ألوان من التزيين قلبت وظيفته من غطاء للرأس إلى إطار يبرز الوجه المخضب بعناية.
هذه المراوغة، هي سرنا الصغير الذي يضمن بقاءنا موضوعًا للاستشراق، ويبقينا مصدر دهشة لا يستطيع الغربي أن يعيشها إن أراد، بسبب اختلاف علاقة الإنسان بالزمن؛ فزمان الشرق دائري، بينما يمضي الغرب في خط مستقيم، قد يعيد المسير في الطريق ذاته ذهابًا وإيابًا، لكن عبر استقامة مفيدة ومضجرة في الآن ذاته.