الفراشة .. نص أدبي لـ خليل فاضل

فريدا Frida Kahlo
Frida Kahlo

قالت: أبي وأمي دودتا قز، وأنا فراشة حرير.

أطرقت برأسها في مزجٍ بين الخجل والاختباء من محدثيها.

كانت إذا أضحكها الحكيم وهي تبكي يشرق وجهها بالدمع ويصبح أحلي، ثم تندّ عنها ضحكة طفولية يرتجُّ معها جسدها، تضحك عيناها وتختلس نظرةً إلى الحاضرين ثم تُخفض رأسها وكأنها تفحص موضع قدميها.

صارت الفراشة أحلى وأحلى مع مرور الوقت، ازدانت أجنحتها بألوان الطيف.

ذات شعرٍ قصير، وجهٌ مدّور مليء بحب الشباب الذي يختفي مع تحسن الحالة النفسية والعاطفية، وإذا اشتعل جسدها بالحب والرغبة والاحتواء.

مات أبي وهو يدخن داخل السجن، سألت عنه كل الفراشات الطائرة، ولم أجده .. سألت عنه كل ديدان الأرض قالوا ودَّعنا وصار حريرًا تلبسه الملائكة. لم أضحك للدعابة ورحت ناحية أمي أسألها.

قالت: كان أبوك عنيفًا، مُدمنًا، خائنًا .. قاطعتها صائحة: حتى لو.. كان قاتلًا هو أبي أحتاج إلى حضنه أرتاح عليه .. لكنه تبخَّر وصار في السماء.

عشت الضنك مع أمي وأخوتي، كان لنا طبق أرز واحد، نعد حباته سويًا لنقسمه قسمة ضيزى .. وإذا شهق أحدنا من الجوع او الخوف عايرتنا أمنا بأبينا، الدودة التي جاءت بنا إلى الأرض.

نسيت أمي أنها ـ أيضًا ـ دودة.

تزوَّجت من رجلٍ ميسور الحال .. يأتي لينام معها كل حين ويسترنا بما تيسَّر من مال.

الرجل الآخر (الدودة الغنية، متزوج من أخرى وعنده بيت وأولاد)، تزوَّج من أمي الدودة ذات الدلال والجمال، ليشتري الهوى بعقد زواجٍ شرعي وبضع دراهم حمراء علاها الصدأ.

كانت زياراته قليلة. الحمد لله.

أمي قاسية قسوة الحياة، داست على رقبة أخي فصرخت، حرقتني بالسكين الساخنة، فجننت.

سبع سنواتٍ كاملة قضيناها في بيت جدّي الدودة الأكبر.

الحمد لله دخلت الجامعة بمنحة من الدولة العظيمة التي ترعى الدود وتقطف الحرير.

لدى شره صارخ للإحساس بالأمان.

قابلت المحامي الغبي صدفة، معه كنت طفلة تلهو بالجنس، عرَّاني، لعب معي لعبة لم أفهمها، أخذني إلى الحمام، أغرقني بالماء، نشف جسدي وهو ينظر بعيدًا، سلمتُ له مشاعري كما أسلمها لفيلم مُمتع أو موسيقى صاخبة، قد يكون غبيًا لكني لا أفهم، قبل أن أصل إلى ذروة النشوة، أحس بأني لازم ولابد أن أكون عاهرة .. نعم عاهرة .. أسهل مهنة أحصل بها على المال والحرير، دون كدٍّ أو تعب أو تفكير.

أخال أحدهم دودة قوية ذات بنية صلبة وعضلات؛ كضابط صاعقة أو جندي أمن مركزي غشيم، يغتصبُني في عنف ولا أقاومه، لا أصرخ، لا أعترض، لكن أبكي حسرة على الزمن والحال وظلم الدنيا والناس.

لعبنا لعبة خلع الملابس قطعة قطعة (الاستربتيز)، ليرى جسمي جزءً جزءً، يعلى من صوت المسجل إلى آخر درجة، لا أرقص، لا أثيره لكنه يستمتع بالحالة، يستمتع بوجهي البريء ودمعاتي التي تحرق خدي .. كل ذلك يثيره، بعدئذٍ كان يلبسني هدومي وكأنه أبي، كان صبورًا حنونًا، وكنت طفلة مشتاقة جوعانة مطيعة، جلست على حجرِه، هزَّني كابنته وضمَّني كعشيقته، حملني إلى فراشه، أعطاني حبًا، واهتمامًا وحنانًا، بالنسبة إلى كل ذلك كان عطاءً جسديًا .. (ولا حاجة بالنسبة إلى عطائه) .. عطاؤه كان أكبر وأعظم .. أعطاني حضنًا أنام فيه ساعة، كان أبي ينام عاري الصدر وكنت حتى السابعة من العمر انأم على صدره، أحس بدفئه وأنسى كل الدنيا، وكأنه هو حضن الرجل الآخر.

أحلم أن رأسي حليقة تمامًا، وأني كائن مكروه من الناس، أخبط على باب كاهن في كنيسة قديمة. فيفتح له الباب رجلٌ بسيط يقرأ لي سفر التكوين وحكايات الأبرص والأعمى والذي ضلّ الطريق. أنام على صوت الأجراس وأصحو على صوت الأذان، وأدرك أنه رغم كل ذلك لن أتمكن من الإيمان.

معي الآن رجل يملؤني حبًا وأمانًا وهرمونات وسعادة .. يحلق بي مع الفراشات إلى السماء السابعة، ثم يهوي بي إلى الأرض السحيقة مع أقذر أشكال الدود، وسط الوسخ والطين والفضلات الانسانية والحيوانية ومياه صرف المصانع والمستشفيات.

الوغد متزوج ولديه ثلاثة أولاد.

وعدته بنسبة مالية تصل إلى خمسة عشر في المائة إذا أحضر لي زبائن عندما أبدأ العُهر رسميًا. وعدني بالزواج وهو متأكد أنه لن يفي .. ليس لأنه غير قادر على الوفاء لكن لأنه يهوى العشيقة ولا يحب الزوجة .. ينام في بيتٍ مهجور على سريرٍ من خشب يتجرّع الكذب مع الويسكي وينام ككلب تحرسه أسراب الذباب.

ولما جاءني عريس سألني (أين عُهرك أين كذبك، أين جمالك المصطنع، أين سيدتي الجميلة التي تستحم بالعطور الباريسية وتضع المساحيق وتصبح امرأة بلياتشو يُفتخر بها؟).

ضحكت لميوعته.

وسمئت احساسي بأن أمانًا قادم في فيلا وفرش وثير.

الآن لابد أن أعدّ نقودي.

الآن سأشتري من السوق غشاء بكارة جديد .. وسأرتدي فستان زفاف من لندن .. وسأتعطر بعطر ماري أنطوانيت .. وسأقضي شهر العسل في موسكو .. الجو هناك بارد جدًا تموت فيه الفراشات ويُباع الحرير غاليًا.

 

خليل فاضل ـ 11/12/2015