القسطنطينية ..مدينة الاشتهاء والعبرة

محمد الفاتح
محمد الفاتح

 

“القسطنطينية..المدينة التي اشتهاها العالم” كتاب من 800 صفحة صدرت ترجمته العربية في جزأين بسلسلة عالم المعرفة (يوليو وأغسطس الماضيين). وقد نبهني إليه مؤخرًا الصديق الدكتور أنور إبراهيم.

يُقدم فيليب مانسيل في هذا الكتاب التاريخ كرواية ممتعة، وقد أكمل مترجمه الدكتور مصطفى محمد قاسم متعة القارئ العربي بلغة ترجمة مطواعة وجميلة وهوامش أغنت النص.

يشير المؤلف بشكل عابر إلى بداية تأسيس القسطنطينة في القرن السابع قبل الميلاد؛ لكنه يركز تأريخه الحقيقي بلحظة دخول محمد الفاتح للمدينة في ظهيرة 29 مايو 1453 ميلادية، حيث أحل الجيش العثماني السلب والنهب، وتدفق الدم في الشوارع مثل مياه المطر بعد عاصفة مفاجئة.

سيرة المدينة التي اشتهاها العالم لموقعها في ملتقى طرق بين القارات تتضمن بين ثناياها قصة صعود واضمحلال الإمبراطورية العثمانية. ويبدو أن مقتل الإمبراطورية العظيمة جاء بالأساس من الاستعانة بالدين لإسباغ شرعية على الحكم، وقد انتهى هذا المسلك بتقويض ذلك الحكم.

يستفيض المؤلف في وصف “مدينة الله” التي تميز تاريخها بالنزاع بين الحكم الأُسري والإسلام. ورغم أن جيش الفاتح كان يضم مسيحيين إلا أن رجال الدين الذين شاركوا في الغزو بعباءاتهم كانوا يرون الفتح معجزة إسلامية، وتجرأ بعض الدراويش فيما بعد ليعتبروا أن النصر كان نصرهم لا نصر السلطان.

لم يكن بوسع العثمانيين أن يدعوا نسبهم إلى قريش؛ فاعتمدوا حلاً يتمثل في توثيق الروابط بين الإسلام والأسرة الحاكمة، ونهضت العمارة بهذه المهمة على أكمل وجه؛ فبدأوا في تشييد المساجد وتنسيب القسطنطينية للإسلام. وكان من أشهر المساجد التي شيدها محمد الثاني مسجد على قمة القرن الذهبي، في المكان الذي ادعى المرشد الروحي للسلطان أنه عثر فيه على قبر الصحابي أبي أيوب الأنصاري الذي مات أثناء حصار جيش المسلمين للقسطنطينية عام 669 ميلادية، وطبقًا لهذا الزعم أصبح أيوب الأنصاري راعي القسطنطينية الإسلامية!

تواصلت عادة السلاطين في بناء المساجد حتى في أزمنة القحط، وكان كل مسجد يضم هيئة ضخمة من الموظفين العلماء، وعلى رأسهم استقر مفتي القسطنطينية الذي كان يُعرف بشيخ الإسلام، وكان الرجل الثالث في الدولة بعد السلطان والصدر الأعظم، ويصف المؤلف موكب السلطان المهول لصلاة الجمعة. وكان سليم الأول يتخذ العديد من الألقاب الفخمة، لكنه كان يعتز أكثر بلقب “خادم الحرمين الشريفين”.

ورغم أن توسل الشرعية من الدين بدأ مع محمد الفاتح نفسه؛ إلا أنه أقام حكمه على التسامح مع أتباع الأديان الأخرى، ولكن هذا الأساس تدهور مع الوقت بدأ الاستيلاء على الكنائس وتحويلها إلى مساجد. ولم تضيق المدينة بمسيحييها فحسب، بل ضاقت بالعلم. أصبح بوسع المفتي تحريض الرعاع على تحطيم مرصد أنشأه السلطان، وتحطيم أرغن أهدته ملك انجلترا إلى محمد الثالث. أما الطامة فكانت في فرمان لسليم الأول عام 1515يتوعد بالموت أي شخص يحترف الطباعة.

باختصار أوقف رجال الدين الزمن، وأصبح نفوذهم كبيرًا حتى تحولت القسطنطينية الإسلامية إلى سجن للعائلة التي أنشأتها.

على أن حرص آل عثمان على مظهر التقوى لم يمنعهم من التوسع في الإعدام الذي شمل كبار المسئولين، وكان الإعدام يستلزم مصادقة المفتي، وكانت رؤوس المعدمين تزين فتحات على امتداد أسوار القصر، وفي حالة كثرة عدد المقتولين كانت الأعضاء الصغيرة كالأنوف والآذان والعيون، تُعرض في كومة أمام البوابة. وهكذا أضفى الحكم المطلق الضعيف هالة من الشر على المدينة والإمبراطورية، وكان لابد من الانهيار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

http://www.almasryalyoum.com/news/details/867811