في كتابها “الملك ينحني ليقتُل” تروي الكاتبة الرومانية الألمانية هيرتا موللر عن أيام قليلة عملت فيها معلمة مؤقتة في مدرسة ابتدائية. سلمتها مديرة المدرسة الفصل بعد أن حذرتها من المساس بطفل معين لأن أباه المسئول الحزبي المحلي، وفور مغادرة المدينة سألت المعلمة هيرتا الأطفال إن كانوا يحفظون أغنية لها علاقة بالصيف فلم تجد إلا الصمت، سألت عن الربيع، عن الخريف، عن الشتاء، عن أغنية لها علاقة بندف الثلج التي تسقط خارج الفصل، ولكي ينهي الأطفال العقلاء إلحاحها قالوا في صوت واحد: نريد أن نغني النشيد الوطني!
سألتهم: تريدون أم يجب أن تغنوه. وأجابوا جميعًا: نريد.
انخرط الأطفال في الغناء، وبعد أن انتهوا سألها أحدهم: لماذا لم تغن معنا يا رفيقة؟
أربكها سؤال الطفل الذي تصفه بـ “الحارس الوطني الصغير” لكنها اهتدت إلى الجواب الصحيح: حتى أراقب غناءكم لأصحح، لو غنيت لن أنتبه إلى الأخطاء.
وتروي هيرتا: كان ممنوعًا أن تلقن هؤلاء الأطفال الصغار شيئًا عن الأنا…. ومن يوم إلى آخر صرت أعقل ذلك وأراه أمام عيني بوضوح مطلق؛ فقد وصل اغتصاب تلك المادة الإنسانية وتدميرها إلى أعماق صار فيها استمراره حالة إدمان”.
ربما لم يُقصر الأدب العربي في الإشارة إلى تخريب الروح الذي يمارسه الديكتاتور، تكفي روايات صنع الله إبراهيم وعبدالرحمن منيف ومسرحيات سعدالله ونوس، هذا إن قصدنا من سلكوا الطريق الواضح نحو هذا الموضوع، بينما لا يمكن لكاتب يطمح للبقاء أن يتفادى هذا الموضوع في كتاباته، لكن الأدب العربي أغفل في الحقيقة طفولة الديكتاتور وطفولات ضحاياه.
صور الأدب العربي النتائج البشعة للقمع في غرف التحقيق وزنازين الاعتقال، لكنه لم ينتبه إلى التخريب الذي جرى للوحش والطريدة في المدارس، التي قامت بدور مؤسسات قتل للمادة الإنسانية يسهل التحكم في لحمها عندما يصير أكبر وأضخم.
وقبل أن تكون قرارات المستبد “تاريخية” في الصحيفة والراديو والتليفزيون صارت تاريخية بالنسبة للأطفال الذين يجب ألا تشغلهم غيمة في السماء أو شجرة في الأرض عن مهمة الخوف من الزعيم.
لم تكمن آليات التدجين في الصغر بمناهج التاريخ والتربية الوطنية والقراءة فحسب، بل في الضرب الذي لم يغادر الكثير من المدارس حتى الآن، وفي كل ما من شأنه أن يجعل الإنسان يتخلى عن فرديته كما تقول هيرتا موللر، أي أن يكون بلا مطالب، لابد أن يستغني عن قصة الشعر التي يحبها، عن لون القميص، عن المناقشة، وحتى عن قراءة ما يحب. عليه أن يتلقى ما يلقى عليه حتى لو لم يكن منطقيًا.
هذا التخريب الذي يجعل من المدرسة تمرينًا أول على السجون، ليس حديثًا، ولكنه تفاقم بهذا القدر أو ذاك في كل بلد حسب العديد من الظروف الموضوعية التي أوجدته؛ فلم يولغ خدم زين العابدين بن علي في دم المدرسة التونسية مثلما فعل خدم مبارك في مصر مثلاً.
و”الخدم” هي الكلمة المناسبة لوصف رجال التعليم الذين انحطوا بالمناهج التعليمية إلى ذلك الدرك وقيفوا قامة البلاد على قامة الحاكم؛ فالموهبة كريمة النفس متباهية حتى. وحده عديم الموهبة ضعيف النفس يمكنه أن يزيف التاريخ والأدب ويزيف حتى الرياضيات. وأمثال هؤلاء من حملة الشهادات العليا من يخرجون في الفضائيات إلى اليوم يهينون المنطق وشهادات الدكتوراة التي يحملون ويدافعون عن بقاء سفاح في السلطة.
هؤلاء موجودون في كل مكان؛ وأما لماذا صارت مشكلة مصر أعمق من غيرها، فالسر يكمن في تعبير “الدولة العميقة” الذي يتردد الآن بمناسبة وبدون مناسبة في الإعلام المصري. عمق الدولة، أي عمق بيروقراطيتها هو الذي جعلها تنتبه أكثر من غيرها من البيروقراطيات إلى أهمية قتل الأرواح في مهدها.
استغرق الأمر عقودًا حتى تم تحويل الدولة في مصر العميقة من بنية النظام السياسي إلى بنية التشكيل الإجرامي، وطبقًا لبنية العصابة