أحببنا الأدب الياباني. وفي أعناقنا ديون لمترجميه: كامل يوسف حسين، ماري طوق، وبسام حجار وغيرهم، لكن إلى أي حد كان هذا الياباني الذي أحببناه يابانياً؟
لقد درنا حول أنفسنا دورة كاملة، لنذهب إلى الشرق عبر الغرب. قرأنا كاواباتا وتانيزاكي وميشيما وغيرهم عبر الفرنسية والإنكليزية.
ويستطيع قارئ يتقن لغتين من الثلاث أن يدرك بسهولة التغيير في كلمات العنوان أو المتن، لكن ما لا نستطيع أن نتوقعه هو مدى التغيير الذي يطرأ على الأشياء سريعة العطب: الإيماءة، الابتسامة، ورفة الخجل على صحن الخد أو على رموش العيون المسبلة أغلب الوقت!
الغريب أن محاولات لترجمة الأدب الياباني من اليابانية مباشرة لم تترك أثراً. وهذه مفارقة تستحق التأمل. هل أحببنا خيال
المترجم الغربي عن الشرق؟ أم أن الترجمة عن اليابانية مباشرة هي التي جاءت مثقلة بأهواء المجاملة بين المترجم والكاتب الياباني وبين الكاتب الياباني وسفارات بلده التي دعمت الترجمة؟ ومعروف أن الحكومات شرقاً وغرباً لا تتفق على شيء قدر اتفاقها على دعم الجثث الطافية على سطوح آداب بلادها!
هل في الأمر مصادفة أو قدر قاس جعل من أتقنوا اليابانية من العرب لا يتمتعون بعلاقة حسنة مع العربية؟
أياً كان الأمر؛ فالنتيجة أننا لم نزل محكومين بالدوران حول العالم لقراءة الاختيارات العذبة لمترجمين أصحاب ذوق، ترجموا لنا ما تمنوا أن يكتبوه. ولا مفر أمامنا من تقبل المؤلف الشرقي بعد مروره على الغرب؛ أي بعد نزع طبقة من ملابسه أو إلباسه طبقة إضافية، حسب أهواء المترجم الغربي وفكرته عن الشرق.
وحتى وقت قريب كان الغربيون يعتقدون أن اليابانيين والصينيين لا يعرفون القبلة، لأنهم تصوروا أن التقبيل يجب أن يتم على طريقتهم: في الحدائق والشوارع وفي الباص والمترو، ليصلوا إلى أسرّتهم بعد ذلك زاهدين.
لم يحسب الغربيون الفرق بين الشمس الساطعة والضباب.
الشمس تخزي النار؛ فلا يمكننا أن نرى اللهب في مكان مشمس إلا من خلال القليل من الدخان الذي يتصاعد من غصن لدن سيئ الاشتعال، حتى ذلك الدخان نراه تحت الشمس مجرد إشارة خافتة قليلة القتامة.
نبتة الظل مثلها، مثل الأوروبيين الذين يبوسون علناً، تتطاول سريعاً بحثاً عن الشمس، لكن هياجها الهلوع لا يعول عليه؛ فساقها لا يكون في متانة ساق نمت بطيئاً تحت الشمس، وهكذا البشر.
الوهج الذي أغلق عيون اليابانيين على حيائها، هو ذاته الذي جعلهم يدخرون قبلاتهم إلى غرف النوم لتصبح فعل حب كامل.
وربما كان الحياء أكثر ما يتبقى في كتابة الشرقيين بعد أثر الترجمة المزدوجة.
أقرأ الآن رواية لتانيزاكي الذي قرأنا له من قبل ‘التاريخ السري لأمير موساشي’ و’فتاة اسمها ناؤومي’ و’الذين يحبون الشوك’.
الترجمة الجديدة لعدنان محمد وصدرت عن دار ‘ورد’ تحت عنوان ‘اعترافات خارجة عن الحياء’، والرواية ليست من الأعمال الكبيرة، ولكنها من الأعمال الجذابة، وربما كانت طموحاً مبكراً من جونيشيرو تانيزاكي (1886 ـ 1965) إلى ‘البست سيلر’ حمى أيامنا، لكن على الطريقة اليابانية الخجولة!
أستاذ جامعي في منتصف العمر لم يزل يعاني من الافتتان بزوجته الأصغر منه وعدم القدرة على الوفاء بمتطلباتها الجسدية، وهي على العكس حارة وتشمئز من جسده. وكلاهما متكتم على معاناته بسبب الخجل. هي تتعاطى الكحول حتى تثمل فلا تشعر بثقل حضوره وقلة همته، وهو يتعاطى المقويات ويحاول إثارة نفسه بتصويرها عارية خلسة تحت تأثير الكحول. وكلاهما يدون مذكراته، ولا يمعن في إخفائها متيحاً للآخر متعة التلصص عليها. ثم يدخل حياتهما شاب يطلب يد ابنتهما، ويلاحظ الزوج أن الشاب منجذب إلى الأم أكثر من انجذابه للفتاة، والأم من جانبها لا تترك الشابين وحدهما أبداً. وعلى مدار الرواية نرى الاحتراق المزدوج الذي أصبح رباعياً. كل منهم يدرك وساوس الآخر، وكل منهم منجذب إلى قدره، بهذا القدر أو ذاك من التواطؤ يريد التضحية من أجل حصول شريكه على لذة لم يتمكن من توفيرها له!
لا تبدو الرواية سياقاً منفرداً في الأدب الياباني؛ فالتفنن في الإخفاء والهروب هو ذاته ما نجده عند يوكيو ميشيما في ‘اعترافات قناع’.
كاواباتا يطلع قراءه منذ الأسطر الأولى على ما كانت تعطيه مدبرة بيت المتعة للرجال الخضر في ‘الجميلات النائمات’: حبتا منوم لكل زائر، يجب أن يبتلعهما أمامها قبل أن يصعد إلى غرفة الفتاة المنومة سلفاً، فيضطجع في حضنها، من دون أن تشعر به، وعندما يستيقظ من أحلامه صباحاً تكون هي قد سبقته إلى الاستيقاظ وانصرفت. وقد رابط ماركيز لهذه الرواية عقوداً دون أن ينساها، حتى استنسخها استنساخاً في ‘ذكرى عاهراتي الحزانى’، ولنا أن نلحظ الفرق في العنوان بين ‘الجميلات’ عند كاواباتا والصفة الأخلاقية أو التحقيرية ‘عاهرات’ عند ماركيز. إضافة إلى أن الرجل الكولومبي المسن لم يلتزم قواعد الحياء في فراش العذراء كما فعل إيجوشي الياباني.
الأقنعة كثيرة لدى أبناء الشمس المشرقة حتى في الواقع؛ ففي اليابان، لا الغرب، عاشت فتيات الجيشا اللائي تخصصن في الإمتاع بالموسيقى ولباقة الحديث، وهذا هو المعلن، ليبقى ما هو أبعد بين الفتاة والرجل سراً لا تعترف به بيوت المتعة المحترمة.