بؤس المستقبل في حضور الإيمان وغياب الضمير

عندما ظهر إسلام عفيفي على الفضائيات العمومية بأحاديثه التي أثارت الزوابع بين المتكلمين بصوت الله من أزهريين وغير أزهريين، والمتكلمين بصوت المستقبل ممن يُسمون بـ “التنويريين” كتبت على هذه الصفحة “عفوًا..لن أتضامن مع إسلام بحيري” وشرحت وجهة نظري من القضية رافضًا مبدأ بث البرامج الدينية في أجهزة الإعلام، أيًا كان نوع خطابها، لأن التنويري والتجهيلي ليس مكانهما التليفزيون.

وقد تطور الصخب إلى بلاغات للنيابة تحولت إلى محكمتين حكمت إهداهما ببراءة بحيري والأخرى بالسجن استنادًا إلى المادة 98 من قانون العقوبات التي تُجرَّم ازدراء الأديان بشكل فضفاض.

ومع الحكم استعرت الحرب بين الفسطاطين. كل من أراد أن يُثبت غيرته على الدين يهاجم السجين المغدور به والمدافعين عنه، وكل من أراد إثبات انحيازه للحداثة والعصرية يهاجم “الرجعيين” بعضهم يُسمي الأزهر صراحة والبعض يهاجم أشخاصًا.

ومن يراقب التشجات التليفزيونية وعروق الرقاب النافرة، لابد أن يتذكر مصادمات سابقة بين الطرفين، انتهت أحيانًا بالاغتيال لا السجن. وببعض التدقيق سيرى في المواجهات الحالية وجوهًا ممن يُدعون “مثقفون” كانت حاضرة دائمًا في المواجهات السابقة، ولم يراجعوا أنفسهم ليروا بأمانة أن قيم الحرية والانفتاح الفكري تخرج متضررة من كل مواجهة، حيث يلتف العامة حول من يتصورونهم المدافعين عن الدين، من الأزهريين وغير الأزهريين، وتضع شرائح واسعة نفسها في عداء مع كلمة “ثقافة” من حيث المبدأ، طالما أن من يتطاولون على الدين هم من المثقفين!

والحقيقة أن طرفي النزاع على شاشات الفضائيات العمومية متشابهان بأكثر مما يظنان، كلاهما لا ينطلق من العقل، بل من الإيمان، سواء كان مؤمنًا بما يعتقد، أو يظاهر بالإيمان. وربما كان من حق أصحاب الخطاب الديني الجامد أن يتمسكوا بقناعاتهم وهم يرون المجتمع يزداد تخلفًا وانحيازًا معهم، لكن بأي حق يتقاعس من يدعون أنفسهم تنويريين عن الشك في سلوكهم الثقافي الذي اتبعوه من الشباب إلى المشيب؟! وهو سلوك مشين يقوم على قلب الأولويات، وتقديم ما يُسمى “تجديد الخطاب الديني” على تجديد التعليم وسائر مؤسسات الدولة. لا يدافعون عن سجين سياسي، لا يتضامنون مع الفئات الفقيرة في مطالبها العادلة، لا يرفعون يدًا ضد خنق المجال السياسي، لكي يشعر الناس أنهم منهم، ويطمئنوا لخطابهم ضد الخرافة الدينية.

وإذا كان هؤلاء التنويريون يسكتون عن الحق السياسي؛ فالطرف الآخر يفوقهم في انعدام الضمير، إذ لا يفوته تطويع الدين لخدمة الجمود والاستبداد، بالعودة إلى ترسانة فتاوى تزيف الوعي السياسي، وتدوس على العقد الاجتماعي الذي أصبح أساس الحداثة السياسية، وتنقب في المقابل عن سوابق للقياس عليها من التاريخ الإسلامي، المتراوح بين 30 سنة راشدة وألف وأربعمائة من الملك الاستبدادي!

وبعيدًا عن هذا الاختلاف بين تضليل الصامتين عن السياسة  وضلال المتكلمين، فكلاهما ينصاع لصراع الديكة حول صحة رأي عمره ألف عام، يتملكه إحساس بالنشوة الجنسية عندما يرى نفسه تحت بؤرة ضوء صغيرة، في قضية لن تُحسم مطلقًا.

لا يتحدث “التنويريون” عن التزامات السلطة إن كانت حقًا مع التحديث السياسي، عن مسئوليتها في فرض  الصمت الديني على المجال العام، لتقليل الهوس الذي أصبح ماسًا بكرامة الحياة والدين معًا، حيث الفتاوى المخجلة حول أدق علاقات الأزواج.

لا أحد يريدها دولة، ويفضلونها مستشفى للأمراض العقلية هم فيها نجوم!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصري اليوم ، الثلاثاء 19 يناير 2016.