من لقطات الكتابة خفيفة الظل التي لا تنسى، لقطة للكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو يتعرض فيها لجانب من الحياء لدى فئة الأدباء والكتاب، وهي فئة يعلم العامة قبل الخاصة أن قلة الحياء متفشية بينها، لكننا لا نعدم نبتة في الحجر!
يصف كالفينو كلاسيكيات الأدب بأنها “الكتب التي نحن بصدد إعادة قراءتها” ويضع في هذه الخانة روايات مثل معطف جوجول، “الأخوة الأعداء” لدوستويفسكي، “الحرب والسلام” لتولستوي، “مدام بوفاري” لفلوبير، وغير ذلك من الأعمال التي يخجل الكاتب من كونه لم يقرأها؛ فإذا سئل عن أحدها يقول: “إنني بصدد إعادة قراءته هذه الأيام”.
ويمكننا أن نضيف من العربية عددًا من هذه الكتب المجيدة التي ينبغي أن يخجل المرء لكونه لم يقرأها، وخصوصًا كتب النهضة بين ختام القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين قبل أن تتفشى الأمية الأدبية والفكرية باسم الثورة وجماهيرها العريضة.
من هذه الكتب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” لعبدالرحمن الكواكبي، الذي يعيش في ثقافتنا العربية مثل الشائعة؛ فالجميع يعرفه اسمًا، والندرة النادرة تعرفه نصًا سابقًا لزمانه، وأندر من هذه الندرة من يعرفون مصير الكاتب، حلبي المولد 1854، قاهري الممات مسمومًا عام 1902 في أول حالة اغتيال لكاتب عربي، بعد اغتيالات وإعدامات العصرين الأموي والعباسي.
هناك طبعات متعددة من “طبائع الاستبداد” لكن في حدود علمي لم يدرسه أحد من قادة التنوير في عصر مبارك، ولم تضعه الجامعات موضع مقدمة ابن خلدون، على الرغم من أن عطاء الكواكبي التأملي لم يقتصر على الاجتماع بل امتد ليشمل علم النفس والسياسة، ويكفي وصفه لكتابه قبل المقدمة: “هي كلمة حق وصرخة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح، لقد تذهب غدًا بالأوتاد”.
ويكفي أن نبوءته صدقت؛ فقد صفرت الريح بصرخته أكثر من مائة عام قبل أن تذهب ثورات العرب بأوتاد طغاتها اليوم.
ومن مزايا كتب الرؤية التي من هذا النوع أنها تصدق على أزمان غير زمانها.
لا يمكن الإحاطة بكل أبواب الكتاب على صغر حجمه، لكنني أتوقف عند فصلين عن الاستبداد والدين والاستبداد والعلم، وهما ينطبقان بشكل مذهل على خطة الطغاة العرب الذين سقطوا والآيلين للسقوط وعلاقة الجماعات السلفية ومثقفي السلطة بإطالة أمد الاستبداد.
ثقافة الطاعة التي تعاون الحكم ورجال الدين على صنعها من السادات وربما من عبدالناصر إلى اليوم يفندها الكواكبي بلا مواربة: “تضافرت آراء كثير من العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان، على أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان، أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان، بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان، أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب”.
وإذا كان الانحطاط ممكنا بتأويل الدين لصالح الطغيان، فالنهضة غالبًا تأتي من الدين، وهنا يلاحظ الكواكبي ملحوظة شديدة اللمعان؛ فيقول إن اتباع الساكسون للإصلاح الكنسي الذي جاءت به البروتستانتية أصلح سياستهم بأكثر مما صلحت السياسة عند اللاتين من فرنسيين وطليان وإسبان الذين اعتمدوا الإصلاح بإعادة السلطات كاملة إلى الإنسان.
ويقدم الشيخ المفكر تعدد الآلهة في اليونان، ووجود تخصصات لكل منهم على أنه حيلة ضد الملوك المتألهين، حيث أتاح تعدد الآلهة كسر شوكة “واحدية الملوك المتألهين” لصالح التواضع في ظل التعدد والاختلاف!
وأما لحى السلفية فيكشفها الكواكبي بالمذهل من الرؤية والعبارة:“..لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد، المختصة ما بين الإنسان وربه، لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، إنما يتلهى بها المتهوسون للعلم، حتى إذا ضاع فيها عمرهم، وامتلأتها أدمغتهم، وأخذ منهم الغرور؛ فصاروا لا يرون علمًا غير علمهم، فحينئذ يأمن المستبد منهم، كما يؤمر شر السكران إذا خمر. على أنه إذا نبغ منهم البعض ونالوا حرمة بين العوام لايعدم المستبد وسيلة لاستخدامها في تأييد أمره ومجاراة هواه في مقابلة أنه يضحك عليهم بشيء من التعظيم، ويسد أفواههم بلقيمات من مائدة الاستبداد”.
لا يمكن لهذا النص أن يكون مكتوبًا قبل أكثر من مائة عام، فالمستبدون العرب الذين لم يحتاطوا ويصنعوا ما يكفي من السلفيين لتخويف العالم بهم من الثورة يختلقونهم اختلاقًا.
والكواكبي ليس مذهلاً في انطباق رؤيته على الواقع المصري والعربي اليوم فحسب، بل في اللغة السريعة المؤدية للمعنى بأقصر الطرق.
وفي الكتاب نصيب لمثقفي السلطان، الذين رفعوا كشافات التنوير ضد طيور الظلام؛ بينما كانوا يشتركون مع السلفيين في خدمة السلطان، لكن المساحة انتهت وأنا الليلة تعبان.