تلك العربات التي كنا نلعب عليها كل صباح، في مستشفى الكويت في صنعاء؛ المستشفى الذي كانت ماما زمزم تعمل ممرضة فيه، بداية من منتصف سبعينيات القرن الماضي، بعد أن تركنا الحبشة وأتينا إلى اليمن. تلك العربات؛ إياها، التي كُنا نلعب عليها أنا وشقيقي الراحل محمّد الذي كان يكبرني بثلاثة أعوام، محمّد الذي مات منذ عام ونصف وتركني من دونه ضائعاً في غابة. لم نكن، هو وأنا ندرك أنها العربات التي تعمل على نقل الموتى باتجاه المشرحة. لم نكن ندرك المهمة الأصلية لها. لم نكن نعرف سوى أنها تكوين من أجهزة وعناصر وموادّ المكان. جزء منه ولا تعني مهمة أخرى، أو مهامّ ثانية كانت ماما زمزم تعرفها جيداً لكنها لم تكن تجدها ضرورية كي تحكي لصغار مثلنا عنها وعن دورها. عن دور تلك الأجهزة والأدوات الناقلة.
كان الممر طويلاً وكُنّا نلعب عليها بالدور، (محمّد وأنا). نلعب بالعربات وبالممر أيضاً. أنا أصعد على العربة لفترة ومحمّد لفترة. كنا نتبادل الأدوار. هو يدفع العربة لفترة وأنا أفعل الشيء نفسه لفترة أخرى. كاتفاق أخلاقي بيننا. محمّد جبران الذي كان (ما أبشع كلمة «كان»)، الذي كان طيّباً إلى درجة مفرطة، يحبه جميع الناس وكنت أغار من هذا. لكنه كان يلعب على العربة أكثر منيّ. كان يخدعني، كان يستقوي عليّ بجسده الضخم مقارنة بجسدي، وقتها. أعترف أن محمداً أخي كان طيباً، وحصِناً لي، لكنه كان أحياناً يضربني لأبسط خطأ كنت أقوم به بسبب من عدم معرفتي باللغة العربية وقتها. هو كان مترجمي الخاص في وسط غابة من الناس الذين لم أكن بقادر على التخاطب معهم بلغة يفهمونها. لكنه وقت الجِد كان يهرب ويتركني لحال سبيلي وفي مواجهة مصيري الشخصي. في مرة، على سبيل المثال، تسبّب في كسر ذراعي اليسرى ليلاً وأدخلني البيت بصمت وهدوء وأنامني في مكاني وذهب هو للنوم في مكانه. كنتُ وقتها في الصف الخامس الابتدائي. ماما زمزم كانت في المستشفى ولم تعلم بالأمر إلا على بكائي فجر اليوم التالي. أتذكر يومها كمية الضرب الذي ناله محمد. ذراعي اليسرى حتى الآن ما تزال تعاني من آلام موسمية. لكنّها ما تزال تذكرني بمحمّد.
مرة ثانية. ومع تلك العربات نفسها التي كانت تؤدي إلى مشرحة الموتى والتي كانت تعمل عليها ماما زمزم. تسبّب محمد شقيقي الراحل في كسر واحدة منها، (العربة) بل كانت وقتها الوحيدة في ذلك الممر الذي يؤدي إلى تلك المشرحة.
لم تكن ماما زمزم بحاجة لجهد كبير وهي تنقل الموتى إلى المشرحة. كانت تلك العربات تقوم بالواجب. تقوم زمزم بشيل الجثة وحطّها على العربة وهي تسير بمجرد دفعة بسيطة عليها. وهكذا تصل الجثث سريعاً إلى المشرحة أو إلى ثلاجة الموتى، تلك النقطة التي ستكون نقطة خلاصهم من الدنيا والحياة.
في تلك الليلة، الذكرى الثانية، التي كسر فيها محمّد شقيقي تلك العربة الوحيدة، ماتت سيدّة ثقيلة الوزن. كانت حالتها سيئة للغاية وكانت جميع الطبيبات المناوبات في النوم التام. كانت ماما لوحدها الساهرة. ماتت تلك السيدة ذات الجثة الضخمة. لم يكن هناك مع ماما زمزم من يساعدها على رفع الجثة معها. كما لم تكن هناك عربة. تلك العربة التي كسرها محمّد.
تحدثني ماما عن تلك الليلة وأنا أسجّل ذكرياتها عن ذلك المكان. قالت إن الجثة كانت تنزلق منها في ذلك الممر الطويل وهي تذهب بها إلى المشرحة حتى لا تتعفن في سريرها. «حملتها على ظهري» تقول ماما. لكن الجثة كانت تنزلق على طول من ظهرها لأنها كانت ثقيلة الوزن وكانت ماما وقتها متعبة للغاية لأنها كانت خارجة للتو من ولادة أختي الصغرى فيروز.
استمر الوضع طويلا وهي (زمزم) تمر في ذلك الممر الطويل الذي ظهر بلا نهاية وقتها. لكنّها مرّت ومرّت حتى النهاية ووصلت. ماما زمزم، تصل دائماً ولو كان هذا بصعوبة، وصلت لكن بعد أن بكت كثيراً في منتصف ذلك الطريق، هكذا قالت لي.
هناك أسرار ستبقى طويلاً في قلبها، ولن أجبرها على البوح بها. لا أقوى على جرحها وتقليب مواجعها.
لكن، من جهتي سأحتفظ بسرِ واحد في قلبي إلى الأبد؛ لن أقول لها، لن أقول لزمزم: إن من كسر عربة نقل الموتى، في تلك الليلة هو شقيقي الراحل: محمّد.
——————————
فصل من (كتاب محمد) لجمال جبران، يصدر قريبا من قطاع الثقافة بأخبار اليوم