كيليطو من شتى جوانبه

عبدالفتاح..الكاتب في عزلته
عبدالفتاح..الكاتب في عزلته

وجه عابس بفم مطبق وعينين متسائلتين تمامًا خائفتين غالبًا. لو قابلته في مترو أو على مقهى عند ناصية شارع مجهول ستحسب أنك بصدد رجل لا يدري من أمر القراءة شيئًا.

ولكن عليك أن تنتبه؛ فعيون الجاهلين لا تخاف ولا تتساءل كما تخاف عينا عبدالفتاح كيليطو وتتساءل. وأما عبوس الوجه فهو المظهر المضلل الثاني لساخر يدخر سخريته لنفسه، عندما يجلس وحيدًا ليدون قراءاته للنصوص والوجوه.

عبوس عبدالفتاح كيليطو وخجله الطبيعي صانا وقته عن التبدد على منصات المؤتمرات، وعيناه الخائفتان المتسائلتان هما سر المكانة التي حازها.

بعدد قليل من الكتب النحيفة صار عبدالفتاح كيليطو القاريء والكاتب العربي الأمهر.

 

للقاريء أن يرصد العديد من الثيمات المتكررة لدى عبدالفتاح كيليطو: الحياة، الموت، القراءة، الكتابة، الحب، الكره، الحية، الماء، الدخان، المرآة.

لا تحضر هذه الموضوعات فرادى في نصه بل في ثنائيات تستدعي فيها المفردة الأخرى، أحيانًا في شكل واضح عندما تحيل الحية إلى الحبل الذي يشببها أوتحيل العين إلى الإبرة التي تهددها والغراب (الهوائي) إلى الجرذ (الأرضي) والحياة إلى الموت. وفي أحوال أخرى  ينطوي الشيء الواحد على المتضادين معًا؛ فالمرآة سطح وعمق، والنافذة عتمة الداخل وسطوع الخارج، والكتاب مثل حكايات شهرزاد إن لم يضمن الحياة فإنه يؤخر الموت؛ لكنه في أحيان أخرى قد يكون الموت بعينه إذا كانت صفحاته مسمومة.

عبدالفتاح كيليطو نفسه نعرفه كاتبًا لكتب منشورة، لكننا نراه قارئًا داخل هذه الكتب بالذات التي تحمل أغلفتها اسمه كاتبًا، ولا يمكننا أن نتهم ناشريه بالتزييف. حتى روايته “أنبئوني بالرؤيا” مهنة الراوي فيها قاريء، فهو يقوم برحلته من أجل أن يقص أثر طبعة نادرة من “ألف ليلة”. أي الرجلين الأصل وأيهم الصورة المعكوسة في المرآة؟ لا نعرف لكنهما يتكارهان ويتحابان ويسود بينهما دائمًا التوتر غير المعلن للرغبة في النصر أو رغبة كل من العاشقين في ابتلاع الآخر كما في علاقات الحب العنيف.

كيليطو الكاتب والقاريء هما القمقم والغطاء، البحر والشبكة، ولنا أن نراه فيما شئنا من ثنائيات تشغله فيكتبها أو يطاردها في كتابات الآخرين، لكننا قد نجد أنفسنا أمام مسرور السياف، مطالبين بأن نجمع كل ثيمات كيليطو في كلمة واحدة حتى ننجو برأسنا؛ فحسن الحظ من سيأتيه الإلهام وينجو بالجواب الصحيح: العمق.

يبدو كيليطو كائنًا مهووسًا بالعمق مثل باتريك زوسكيند، الذي يندفع بطل روايته “العطر” في جرائم قتل متكررة بدافع من هوس العمق. عاش غرونوي المولود بلا رائحة يحاول استخلاص عطر الأنوثة من رؤوس الجميلات.

زوسكيند نفسه وسم إحدى قصصه بهذا العنوان: “هوس العمق” وتحكي عن فنانة شابة تقيم معرضها الأول، ويزوره ناقد فني ويكتب في الصحيفة بضعة أسطر عن مولد فنانة موهوبة ينقصها بعض العمق. وسرعان ما تناسلت هذه العبارة في برامج إذاعية وتليفزيونية وكتابات أخرى كتبها كسالى مدعون حتى أصابت الفنانة بالاكتئاب فاعتزلت في شقتها ثم تطورت الحالة وألقت بنفسها منتحرة من النافذة فكتبت الصحف في اليوم التالي عن انتحار فنانة واعدة كان ينقصها بعض العمق!

القتل مرة أخرى، حيث تحولت العبارة السطحية التي لا برهان عليها داخل نص الناقد إلى حكم بالموت على فنانة تبدأ مشوارها.

والغريب أن يأتي كيليطو في “أنبئوني بالرؤيا” على فئة مدعي الثقافة فيسخر من النفاق الإنشائي الفج بين كاتب غير موهوب يصف أعمال معرض فني بالعظيمة وهو ينتظر رد الفنان للمجاملة بامتداح كتابته.

مقولة الناقد غير العميقة صارت حكمًا بالموت المادي عند زوسكيند والموت المعنوي عند كيليطو؛ فالنفاق الثقافي يُعلي من “الكيتش” ويرفع أسماء السطحيين على أصحاب العمق، حتى ليضطر الراوي إلى نشر ديوانه باسم واحد من هؤلاء المشهورين، وعندما يشرع في نشر الديوان الثاني باسمه الحقيقي يرده الناشرون لأنه يقلد الشاعر الذي استعار اسمه للديوان الأول.

هكذا ينهزم العمق أمام السطح في “أنبئوني بالرؤيا” وإذا كان كيليطو يفكر في أن كل كتاب هو رأس مقطوع يتكلم (مثل رأس الحكيم دوبان الذي كلم الملك يونان) وكل قراءة هي حوار بين قاريء حي ومؤلف ميت أو غائب، فإن الرواية تنبيء عن مؤلفها كيليطو المهزوم نصه في واقعنا الأدبي أمام نص تافه يتعيش على لحم الإبداع؛ يطارده من منصة إلى صحيفة إلى كتاب، لا يضيف، لا يبحث عن عمق مخفي، بل يصف ما هو ظاهر ببلادة يعافها النص العميق.

والعمق عند كيليطو ليس اختيارًا واعيًا بقدر ما يبدو ولعًا أو قدرًا لا يُرد. يبحث الراوي في “أنبئوني بالرؤيا” عن عمق الليالي، ويعشق “آيدا” التي يبدو عمقها الغامض ميزتها الوحيدة.

العمق “الفخ” الذي اختبأت فيه آيدا من الراوي، هو نفسه عمق المائة جحر في التي حفرها الجرذ في “كليلة ودمنة” ليختبيء في أحدها إذا هجم عليه الغراب الذي لا يستطيع متابعة فريسة في “عمق” جحر واحد، فإذا بالغراب يضاعف احتمالات نجاته مائة مرة. لأنه ضعيف ولا يقوى على منازلة الغراب.

والعمق ـ إذا اتفقنا على أنه الثيمة الشاملة أو ثيمة الثيمات ـ يحضر في نص كيليطو مصحوبًا بنقيضه أو مشيرًا إليه على الأقل، لذلك يتوقف في قراءته كتاب “التشوف” لابن الزيات أمام ترجمة من أربعة أسطر لولي اسمه أبو سهل القرشي جاء من المشرق على قدميه وعلى عاتقه مخلاته التي جعل فيها كتبه، وكلمه جمل: “يا أبا سهل، اجعل مخلاتك عليّ لتستريح من حملها”. ترجمة شديدة القصر “أي النقص” تفتقر إلى تعليل الأحداث كما تفتقر إلى نهاية. ويطارد كيليطو العمق في نقصها. هل كان الولي يسير مفردًا أم ضمن قافلة عندما كلمه الجمل، وهل ترك له المخلاة أم لا، ومن الذي أخبر بالحكاية لأن الأولياء يمتنعون عن إفشاء السر، ولا يكف عن التساؤل إلا ويكون قد ورط القاريء إلى طرح المزيد من الأسئلة واستنباط الملاحظات من النص. ألا يمكننا مثلاً أن نلحظ التشابه بين مخلاة العلم التي يعلقها الولي في رقبته ليقرأ كلما جاع إلى العلم، مع مخلاة التبن والعليق التي يجعلونها في عنق الدابة المرتحلة لتأكل كلما جاعت؟

العمق، حسب قراءات كيليطو في “الحكاية والتأويل” يأتي غالبًا من النقص والغموض، وقد يكون الموت في العمق كما في الكتاب الذي سممه الحكيم دوبان لقتل الملك يونان الذي أصر على قتل الحكيم كإجراء وقائي بعد أن أخافته قوة علمه. وقد ينطوي العمق على الكنز؛ كل الكنوز بألف ليلة مخفية تحت جدار بيت مجهول أو على جزيرة بعيدة.

لكن العمق ليس دائمًا بهجة الاختراع أو نعمة النجاة أو فرحة العثور على الكنز. عمق البحر الذي أخذ الصياد إلى إلقاء شبكته أربع مرات في اليوم بحثًا عن الرزق كاد يهلكه عندما خرجت له الشبكة بعفريت محبوس في القمقم، ولم ينقذه من العفريت بعد أن حرره إلا عمق حيلته، عندما ادعى أنه لا يصدق أن القمقم الصغير يمكن أن يحتوي جسده، وإذا بالعفريت ينخدع ويريد أن يثبت للصياد كيف يستطيع أن يستجمع نفسه داخل القمقم الصغير مرة أخرى فيندفع عائدًا إلى حيث يكاد يهلك في عمق القمقم ولا يخرج منه إلا ذليلاً بعد أن أعطى الصياد المواثيق بألا يؤذه مرة أخرى.

للعمق كلمات تدل عليه مجازًا في نصوص التراث ينبهنا إليها كيليطو: فاكهة الجوز داخل قشرتها، الفتاة العذراء “الدرة المكنونة” والرحم والبحر، وعمق العمق هو الدرة داخل المحارة في قاع البحر. وفي الفكر والأدب يشير البحر إلى عمق العلم واتساعه، وأما العمق الذي تمثله العذرية فيشير إلى الكلام الذي يتعذر الإتيان به أو اختراعه. الرجل الأول في حياة الفتاة هو “أبو عذرتها” والذي يفتض معنى جديدًا أو يخترعه هو أبو عذرة ذلك المعنى.

في مطاردته للعمق يتبع كيليطو كل ما يجده في طريقه من مناهج النحويين والبلاغيين والنفسيين والتفكيكيين بشكل يربك من يحدق في شجرة نسبه؛ حيث  سيجد نيتشة في عمق الجرجاني ودريدا في عمق ماركس وفرويد، وسيجد الكاتب كيليطو في عمق القاريء، لكننا إذا تطلعنا على منصات الأدب وحفلاته فلن نجد شخصًا اسمه عبدالفتاح كيليطو،  فكأننا أمام كتب بلا كاتب، وكأن كيليطو هو الحكيم دوبان مقطوع الرأس يتكلم على الرغم من أنه غائب.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

*نشر المقال من ثلاث سنوات ضمن ملف عن الكاتب قدمته في مجلة “الدوحة القطري” وقت إدارتي تحريرها، أنشره الآن (كده من غير مناسبة)