لا تشبه الكتابة إلا الحب: ولع سري يخص المرء وحده ومن الصعب أن يتحدث عنه أمام آخرين. لكن لا الكاتب ولا العاشق يستطيع النجاة دائمًا مما يسميه الشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا “دناءة البوح” التي تنتج عن رغبة الروح في أن تكون خارجية ومرئية من الآخرين.
هذه الرغبة، التي أحب أن أموهها بالحديث عن ألم يبدو عامًا. ألم الحب أو الكتابة في العالم العربي، أو في العالم الثالث عمومًا، حيث يكون الإنسان محرومًا من لحظة سكينة، من حق الراحة، حق اللعب الضروري لتجدد الحياة وتجدد الحب وتجدد الكتابة؟
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم ينص على الحق في اللعب، لكننا يمكن أن نعتبره قد أورده ضمناً في إطار الحق في الراحة وأوقات الفراغ. وهذا البند من بنود الإعلان لا يُلتفت إليه في بلادنا، إذ لا يمكن الوصول إليه إلا بعد إقرار حق العمل بأجر عادل. وهذا الحق يصبح يوماً بعد يوم أبعد عن أحلام المواطن العربي.
ومع ذلك فإن الحرمان من أوقات الفراغ ليس أكبر المخاطر التي تعترض الكتابة، بل هناك الخوف الذي يتربص بكل كاتب إذا نُقلت عنه عبارةً قالها في مقهى أو كتبها في كتاب.
الملاحقة الفظة عرفها كُتاب بلاد عربية حكمتها ديكتاتوريات صريحة الغباء مثل العراق وسورية وتونس. في بلدي مصر كان ولم يزل هناك نوع من الديكتاتورية يتمتع بذكاء رخو، حيث تتيح حرية الكلام إلى حد كبير، من دون أن يستمع إلى النقد أو يتغير؛ وبذلك تحول حق التعبير إلى مسخرة، والنقد إلى نوع من اللذة الذاتية المؤلمة، التي لا تخلف وراءها سوى الإحساس بالوحدة والخواء!
الديكتاتورية تحب الحشد. يبحث الديكتاتور عادة عن حشد موحد يؤيده لكي يستقر فوق كرسيه، وبالمثل تتطلب إزاحته حشدًا معارضًا. وفي الحالتين ليس هناك سوى الصراخ؛ بينما تتطلب كتابة الأدب ـ كما الحب ـ روح الفرد كما تتطلب الهمس الرهيف.
الحرمان من الرهافة هو أحد الاعتداءات على المستقبل التي لن تغتفر للدكتاتورية. تؤذي الديكتاتورية الحب وتُكره النص على اقتراف الشعار معها أو ضدها، هذا إن لم يختف الكاتب في سجونها أو تصرعه إحدى سياراتها المسرعة الذكية التي تتمكن من التعرف على الكاتب من بين حشود المارة.