فقه الرغبة (2) الجنس يقاوم الموت من سرير المستشفى إلى محطة القطار

Marc Chagall
Marc Chagall

كل إنسان يسعى إلى مكان للحب يكون الحد الأقصى للتضاد مع حياته، من حيث مستوى الراحة، لكن ذلك المكان المختلف لابد أن يبقي على احترامه للسمات النفسية، فالشخص الاستعراضي مثل زوجة الملك شهريار وكثير من أبطال ميلان كونديرا سيفضلون حديقة القصر أو خشبة مسرح، أما الشخص الخجول فإنه سيفضل دائما الأماكن المغلقة قليلة الإضاءة، وبالتالي يكون الليل التوقيت الأنسب لتوهجه.

والشريك السيئ هو من لا يلاحظ هذه الحقيقة لدى شريكه الخجول؛ فيحظى منه بخذلان قد لا تأتي فرصة إصلاحه. وليس هناك أي ضرر لو أن الجميع تعاملوا مع شركائهم ـ من باب الاحتياط ـ  في المرة الأولى بصفته خجولا، فالشخص الاستعراضي لا تهزمه العتمة وهو يتمتع بقدرة على المبادرة تجعله مؤهلا للتصرف الفوري وتغيير المشهد إن لم يعجبه، وعلى العكس فإن الخجل ينطوي على نوع من عدم المبادرة الذي يجعل اللقاء عرضة للفشل الصامت.

 الغابة مكان يبدو نظريا مناسبا للجميع، فهو يمثل خروجًا على ملل وضغط الحياة العصرية،  وهومع ذلك مكان للعزلة بالنسبة للخجول ومسرح للانطلاق بالنسبة للشخصيات الجسورة. ولعل أجمل مشهد كتبه حنا مينة في حياته كان  مشهد اللقاء العاصف بين زكريا المرسلي والراعية الكردية في  الياطر.

ومع كل هذا فإن أهل التجربة يؤكدون أن الحب في الغابة مشهد بصري رائع ينصحون بمشاهدته على الشاشة، ويصرون على أنه يكاد يكون الموقف الوحيد الذي يجب ألا تتبع فيه الحياةُ الفنَ، فأرض الغابة لا تخلو من حشرات دقيقة وأعشاب شوكية وأغصان جافة. لكن المضطر يستطيع أن يتبع نصائح روائيي أمريكا اللاتينية الذين تلافوا مضار الغابات على العشاق في رواياتهم الجسورة بذلك الاختراع العبقري: الأرجوحة.

وعلينا أن نغض الطرف عن أماكن لا يذهب إليها الناس ولا يرسل الكُتابُ أبطالهَم إليها بدافع التغيير، بل تحت إلحاح الضرورة: بيدر الشعير كان المكان الذي أرسلت إليه نعمي كنتها الأرملة راعوت لاصطياد بوعز:”ها هويذري الشعير الليلة فاغتسلي وتدّهني والبسي ثيابك وانزلي إلى البيدر، ولكن لا تعرفي عند الرجل حتى يفرغ من الأكل والشرب. ومتى اضطجع فاعلمي المكان الذي يضطجع فيه وادخلي واكشفي ناحية رجليه واضطجعي وهو يخبرك بما تعملين (راعوت 3، 4 )”ويقول بعض مفسري الكتاب المقدس إن القدمين والساقين تردان  أحيانًا في التوراة كناية مهذبة عن عضو الرجل. وعلى كلٍ يهمنا من الحكاية اعتماد البيدر كأحد أماكن الجبر. ونماذج هذه الأماكن كثيرة في أدب الريف المصري منذ محمد حسين هيكل إلى يوسف إدريس، وخيري شلبي ومعظمها أماكن تركز  الصهد، وتصل خشونتها إلى حد الإيذاء مثل مخازن التبن وكومات الحطب وحقول الذرة (لا بأس بقيعان كبس القطن ) بينما تلح المقابر كمكان للقاء أو الاصطياد في قصص يوسف أبورية الذي تتكرر العلاقات المثلية في كتابته، وهي مثلها مثل العلاقات العابرة مع حيوانات الحقل، علاقات جبر في أماكن الجبر لا تورث من يمارسها من شباب الريف شذوذًا دائمًا.

أكثر مشاهد فعل الحب سخرية في رواية كانت من نصيب “الطبل الصفيح” لـ جونتر جراس، فعلى رأس حقل البطاطس أفسحت الجدة لـ كولياجك القصير البدين تحت أثوابها الأربعة وعرف كيف يتدبر أمره وهي جالسة تلتهم حبات بطاطس مشوية تستخرجها من ركية النار أمامها، وتشير لمطارديه من رجال الجيش إلى الجهة التي يحتمل أن يكون فر إليها!

جونتر جراس
جونتر جراس

وتبقى أماكن الجبر الريفية على أية حال أكثر أمانا وحرية من أماكن الجبر في مدينة متريفة، حيث يهتم سكان المدينة القادمون من الريف أصلا بأخلاق جيرانهم اهتمامهم بالفضيلة، الأمر الذي يجعل من البوابين سلطة لا يعرفها إلا الشباب الذين يسكنون بمفردهم أو يستعيرون غرف أصدقائهم للقاء الحبيبات، وقد سألت أحدهم عن أفضل الأماكن برأيه فاندفع دون تفكير: غرفة مترXمتر بعمارة ليس بها بواب!

الألم الأعمق في حياة البشر، هو ألم الموت لأن الآلهة ـ كما تقول ملحمة جلجامش ـ عندما خلقت البشر جعلت الموت لهم نصيبا وحبست في أيديها الحياة، ولهذا يعد البحث عن الخلود أوالرغبة في استنفاد حدود الممكن دافعا آخر لاهتياج أشواق الحب في أماكن بعينها، تمثل طرفي معادلة البقاء والفناء.

وتعد المتاحف والمعابد والمقابر الأثرية الحالة القصوى للبقاء في الحياة، الأمر الذي يدعو العشاق إلى تبادل القبلات ـ على الأقل ـ في تلك الأماكن، وعلى النقيض تقف محطات السفر كصفعة إيقاظ للإنسان العابر في هذه الحياة، وخلافا لما يمكن معاينته في بوابات الرحيل تلك من مشاهد العناق المألوفة على محطات المترو والقطار والمطارات والموانئ  هناك الأشواق المبهمة لدى الوحيدين من الرجال والنساء في تلك الأماكن، التي ـ إلى جانب كونها أماكن تذكر بقصر العمر ـ توفر  للنفوس الشريفة فرصة التخفف من أثقال الضمير، ولذلك فإن العديد من الأزواج يتذكرون قتيلهم الذي نسوه منذ آخر رحلة، ويبدؤون في الانتعاظ بمجرد مغادرة حاجز الجوازات، بعضهم ينتظر حتى إقلاع الطائرة، والبعض الأكثر إخلاصا يصل إلى الحالة بعد أن تستقر ملابسه على أرفف خزانة غرفته بالفندق في البلد البعيد. ولا يعني هذا ضمان تحقق المطلوب وإنما وجود الرغبة بحد ذاتها وتجدد الإثارة ليس أكثر؛ فتلك الأماكن العابرة كالمطارات والفنادق وعربات القطارات والباصات مثل سنارات كثيرة الغمز قليلة الصيد.

في “سماسرة السراب” يضع بنسالم حميش بطله الهرّاب في عربة قطار بمواجهة امرأة عملية لا تقبل إلا المستقيم طلبت مهرها ووهبت نفسها زوجة له لأقل من يوم، هو زمن بقائه في العربة أو ربما زمن حلمه!

عربات الحنطور يعرفها كل سكان المدن المصرية تقريبًا كأماكن للقاءات المختلسة، ولذلك فقد منحوا حوذيها لقبًا مجازيا يضعه في مرتبة القواد إلا أنهم انتظروا الإنجليزي لورنس داريل لكي يسجل ذلك أدبًا في “رباعية الإسكندرية” حيث يقول الراوي في كتاب كيليا:”أخذنا عربة حنطور كانت تقف في وحشة في موقف سيارات الأجرة في محطة الرمل.السائق العجوز، بوجهه المليء بالندوب، يسأل في أمل إن كنا نريد عربة حب أو عربة عادية، وكيليا تقرقر ضاحكة. اختارت النوع الأخير باعتباره الأرخص أجرًا. قالت “لماذا يابني تأخذ امرأة زوجها قوي البنية في مثل هذا الشيء في حين أن لديها في منزلها فراشا لا يكلف شيئا”!

كل العشاق المحترفين والعاشقات المحترفات يقولون ذلك، وكل الحوذية المحترفين يعرفون كيف يميزون الأزواج من العشاق، ولذلك فإنهم يحترمون الرغبة في الاتفاق على عربة عادية وبمجرد أن يسوطوا الحصان يعودون لتقديم الاقتراح المفيد: هل تفضل سيادتك أن أنشر الغطاء؟

أحد أصدقائي حمَّلني مسئولية تنبيه العشاق، من قراء هذا الكتاب، إلى ضرورة الإجابة بالنفي الحاسم. دفع الصديق خمسين جنيها في جولة حول برج القاهرة كان قد اتفق عليها بعشرة، ولم يكن بحاجة إلى نشر الغطاء مطلقًا، لأن شقة العشيقة كانت بأحد شوارع الزمالك على بعد خطوات من البرج، ولكنهما استسلما لمبادرة الحوذي الذي نشر المظلة الجلدية المعتمة من تلقاء نفسه!

عادة ما يلتقي إله الرغبة في أماكن الرحيل المؤقت بهذا القدر أوذاك من التسامح أوالعداء، بينما تبقى المستشفيات المكان الوحيد المستعد للترحيب به دون تحفظ عندما يفقد المرضى ـ  الموشكون على الاحتضار بشكل خاص ـ حياءهم بمباركة الأهل والأصدقاء الملتفين حول أسرتهم  مرحبين بنفحة الحياة التي عادت، في حين تتقبل الممرضات أكثر المداعبات وقاحة بتسامح اعتدن تقديمه للمقبلين على الرحيل.

أماكن مثل السينما يعد مجرد قبول الدعوة إليها بين رجل وامرأة قبولاً ضمنيًا بارتفاع العلاقة درجة فوق مستوى الصداقة. وبخلاف المسرح وعروض الأوبرا أو حفلات الغناء يكون الحضور الخيالي الهش لكائنات الشاشة الفضية حافزًا للخجولين كي يتخففوا من ثقل الواقع؛ حيث تكثر الملامسات ـ التي تتوافق مع لحظات الإظلام والمواقف الحميمة بالفيلم ـ وهي غالبا الملامسات الأولى لأصحابها التي ستحل عقدة الخجل لديهم إلى الأبد. وباستثناء الزواج لن توجد قوة بعد ذلك تستطيع إيقاف تلك الملامسات! 

وقد عرفت القاهرة من قبل دورًا للسينما مخصصة لهذا النوع من الرواد الذين لا يعبئون بالعيوب الفنية في الصوت أوالصورة، وحتى مستوى المقاعد. وكثيرًا ما وقعت حوادث طريفة مثل تركيب بكرة من فيلم مغامرات أجنبي عقب جزء أول من فيلم رومانسي محلي دون أن ينتبه أي من العشاق المنهمكين في قصصهم الخاصة!

أحد الأصدقاء حكى لي ـ بعد انقضاء زمان التكتم الخاص به ـ  قصة العرض السينمائي الأغرب في حياته.كان قد حجز  في ظهيرة خريفية بطاقتين له ولصديقته لمشاهدة فيلم جان دارك الذي قامت ببطولته أنجريد برجمان، وعندما دخلا إلى صالة العرض وجدا أنهما الوحيدين. ولم تتمكن فتاة مسترجلة (تحمل الراية وتدفع الرجال إلى حتفهم) من جذب اهتمامهما فانهمكا في ألعابهما حتى أضيئت الصالة ليكتشفا مشاهدًا ثالثًا كان يجلس خلفهما مباشرة. نظرا  إليه بخجل ولكنه رد بابتسامة امتنان. وخرجوا من العرض الذي أقيم خصيصا من أجل ثلاثة: اثنان لم يشاهدا شيئًا بينما شاهد الثالث عرضًا مختلفًا!

لا يجب أن ننسى أبدًا الندوات والمؤتمرات الثقافية كأماكن مؤججة للرغبة. ولا يمكن إنكار الأثر الشهواني لنظارة طبية على وجه أنثوي جميل؛ حيث لا يقتصر الهوس بامرأة في وضع التفكير على قلة من غير المؤمنين بالمساواة الذين يرون في جلوس المرأة على منصة مشهدًا شهوانيًا مثل ارتدائها لجلباب الذكر؛ فحتى المؤمنين بقضية المساواة لا يكون بمقدورهم التنازل عن التضاد بين ليونة الساقين (إن كانتا جميلتين وفي مجال الرؤية ) وبين صلابة الجدية التي تتخذها المرأة في الحديث، وسوف يحتاجون لقوة مضاعفة من الفضيلة والتسامي الأخلاقي والفكري لكي يمنعوا أنفسهم من محاولة تصور تلك المرأة الجادة عارية إلا من النظارة الملهمة.

 وقد أجاد ماريو فارجاس يوسا في تصوير هذا الواقع الجنسوثقافي في فصل ” سروال الأستاذة الجامعية ” من دفاتر دون ريجو بيرتو، عندما تعمدت الأستاذة الرصينة أن تتناسى سروالها الداخلي على سلم الفيلا في طريق ضيفها الأستاذ العجوز الرصين الذي كاد قلبه يتوقف وهو يمسك بالسروال ويتذكر جدية المرأة في المؤتمر، ويتساءل عن دلالة هذه اللقية المباركة: هل انزلق السروال من تلقاء نفسه أم تركته الأستاذة عامدة؟! بقية القصة كانت درسًا لمحسني الظن من الرجال. ولم يكن في سلوك الأستاذة ما يشين، فقط أرادت أن تذكر الأستاذ المتطهر أن من تفكر هي امرأة أيضًا.

هذه المحاولة من الأستاذة لاصطياد أو إزعاج الأستاذ التي كتبها يوسا تخييلا يعرف المثقفون الكثير من الوقائع المشابهة لها، في كل زمان ومكان ثقافي سواء جاءت المبادرة من رجل أو امرأة، ولكننا سنحتاج إلى العيش في زمن آخر لكي نكتب بحرية السيرة الجنسية للمؤتمرات الثقافية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* فصل “مطارح الغرام” من كتاب “الأيك”.