أسنانها بشكل خاص

فريدا Frida Kahlo
فريدا
Frida Kahlo

أما أسنانها فمثل نور الصبح، تلمع إذا أهلّت؛ صفان متراصان في نعومة حرس شرف تنتمي صرامته إلى التقاليد لا القسوة، يصطف في أناقة كي ننتبه لقدوم الملك فنستقبله بما يليق من خشية.

ويحدث أن يأتي الملك الذي صورته خيالاتنا على أنه حاصل قوة وضخامة وأناقة هؤلاء الذين يحرسونه، فإذا به شخص عادي، قد يكون قصيراً أو بادي الضعف أو بديناً، فتحاول أبصارنا النفاذ إلى الداخل بحثاً عن جوهر مختلف أهّله لهذا المجد.  ولم يكن زمن تأمله طويلا، إذ أدرك  في وجهها ذلك الجمال الأشعث الذي لا يتحرش بالرجال.  وفي عينيها اللوزيتين حزن امرأة واثقة لا تعرف سبباً لاستحالة تلك الخطوة التي تفصلها عن الكمال.  وفي غمازتيها – عندما تبتسم – التجسيد لما يدعوه الناس:الطيبة. وفي الشفتين الرقيقتين يبدو الدليل القاطع على عشوائية الطبيعة التي ظننا أنها لا تخطئ، وقد نسيت أن تستبدل شفتي الطفولة لهذه المرأة التي تجاوزت الثلاثين،  والتي لا يبدو عمرها إلا من سويتر فوضوي لا يمكن أن ترتديه إلا من دخلت المرحلة التي لا تعنينا فيها آراء الآخرين.  ( وقد اكتشف بعد ذلك أن جسدها جميل بما لا يتناسب مع البدانة الكاذبة التي أظهرها السويتر الفضفاض،  والفخذان اللتان ظهرتا لحيمتين داخل البنطلون الجينـز بسبب ضغطهما على الكرسي، بهرته استدارتهما البرونـزية الفتية)

ومثل متسول يفاجئ الحرس بحركة جسور ملقياً بنفسه تحت قدمي الملك، طلب فوراً تليفونها وعنوانها وكيفية لقائها مرة أخرى.  كان يخشى أن تأتي عاصفة مفاجئة وتحملها بعيداً. وكما يفعل الملك بدافع من الطيبة المدّعاة تبادلت معه أرقام التليفون.  وظل أياماً يلاحقها برنين ملح دونما جواب، وكأن الابتسامة التي منحها الملك للمتسول لم تكن ضمانة ضد التنكيل به وإلقائه دون ضجة في السجن.

وبمحض الصدفة تذكر الملك ذلك الشحاذ الذي اعترض موكبه، فجئ به من السجن، وبدلا من أن يهبه شيئاً ويطلقه جعله أقرب أفراد حاشيته؛ صارحته بأنها شعرت في البداية بانـزعاج، لأنها اعتبرته فضولياً أكثر مما تحتمل.  وكلما تذكرت هذا الانطباع  كانت تحاول أن تعتذر بإغراق وجهه بالقبلات، وتبلل دموعها وجهه وهي تنشج و تلعن الغباء الذي منعها من رؤية هذه السعادة المكتملة،  منذ اللحظة الأولى.

وأخذ المتسول الذي صار صديقاً للملك يتلذذ بمشاركته متعة إهمال الحرس الذي يجأر بالتحية؛ كانت أسنانها تجزجز جسده من القدم إلى الرأس، وهو مصغ لارتعاشات  جلده، وبهجة حواسه التي كانت تتفتح دفعة واحدة كوردة فاجأتها شمس الظهيرة وسط الليل، وإذا ما لفهما خدر الارتواء وتهاوى رأسه إلى جانب رأسها مد إصبعاً يزيح الشفة الرقيقة فتتعرى الأسنان ليتحسس فيها ذلك الشيء الغامض الذي يسمى الروح؛ بكل تجليات  مشاعرها من حزن وفرح وحيرة واطمئنان، تعكسها الأسنان مثل موشور يحلل الضوء إلى عناصره الأولية.

ولأننا لا ندرك حسن أوضاعنا إلا بما ينتظرنا من سوء، فإن المتسول الذي استغنى – سعيداً – عن حريته يوماً في حركة اعتبرها جسوراً صار أسيراً؛ راسفاً في ذلك القيد اللامرئي قطع معها الشوارع وأكل الذرة المشوية.  في المتاحف والمساجد والكنائس الأثرية غرق في غواية أسنانها أكثر مما تأمل الجمال الهاجع الذي تركه السابقون على هذا القدر أو ذاك من النقص حياء من اكتمال صفين من الأسنان. في محلات الورد حيث اعتاد أن يجفف دموعها بثلاث من عصافير الجنة، في المطاعم حيث علمها متعة أكل الحمام دون ألم على مصير ذلك الطائر الجميل، في المصعد الأسرع من قبلة الذي ركباه يوماً في الطريق إلى صديق، في محلات الكاسيت؛ حيث علمها حب نجاة الصغيرة وعلمته حب كورساكوف،   في  الأتوبيسات و القطارات؛ حيث احتضن صدرها رأسه، في شقق أصدقاء لم يكونوا مرحبين بهما كامل الترحيب؛ في كل مكان أحكم فيه الآخرون حصارهم كانت الوحشة تأكله، فيكشف لها عن أسنانه، وترد هي بنظرة مترددة قبل أن تطيع وتجاوبه بحركة مماثلة، فتشرق لروحه السعادة التي يتلقفها بقلق مدمن لاحت لعينه جرعة المخدر.

ولم تدم للأسير لذة الأسر، إذ تغير خاطر الملك بمحض الصدفة،  وردٌ أخلص ندمائه إلى عرض الطريق؛ زمت فمها الطفولي فجأة، وتركته معطل الحواس في انتظار نـزق صفين من الأسنان قد يلمعان يوماً بابتسامة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*من “مواقيت البهجة”