سيارة أجرة تعبر الجسر الذي يشق المدينة من شرقها إلى غربها. خلف المقود جلس سائق ينظر إلى الأفق الرمادي. فكر: إنه الخريف!
منذ ثلاثة عقود يقطع هذه الشوارع وهذا الجسر تحديداً، وينظر إلى الأفق من خلف هذا المقود. كان يتعرف على الخريف في لسعة البرد الخفيفة عندما تداعب الزغب الأسود بذراعية وتشعره بقشعريرة لذيذة، ولم يكن الأفق يُعتم في مثل هذه الساعة من مثل تلك الأيام. كان بعض السحاب الأبيض يتجمع في سماء زرقاء تحت الشمس البرتقالية الكبيرة القريبة المنحدرة جهة الغرب. منذ أكثر من عقد بدأ البياض يزحف على زغب ذراعية، بينما كان السواد يتراكم على إفريز الجسر، والرمادي يصبغ الأفق.
لم تغادر المدينة موقعها وتستقر في الشمال كي تحصل على خريف رمادي كهذا، لكنها اتخذت هذا اللون الجديد من كثافة دخان لا يعرفون له سبباً. البعض يقول إنه بسبب حرق المزارعين لقش الأرز الذي ينضج محصوله هذه الأيام. البعض يقول إن الفلاحين يزرعون الأرز ويحرقون القش منذ الأسلاف الموغلين في القدم ولم يكن يصل إلى المدينة، ويؤكدون أن دخان قمامة المدينة الشرهة هو الذي يَعْلق فوقها بسبب اختلاف في توازنات الضغط الجوي في هذا الوقت بالذات. البعض يقول لا هذا ولا ذاك، ويعتبره محض سواد الأيام.
نظر السائق إلى الراكب السارح بجواره، أراد أن يقول له عبارة من تلك التي بلا معنى، ويكسر بها الغرباء الصمت. فكر أن يقول له: إنه الخريف. ثم قرر التريث. اختلس نظرة ثانية إلى الراكب. كان على وشك أن يقول له: إنه الخريف، لكنه تراجع.
منذ ثلاثة عقود، كان بوسعه أن يثرثر مع الراكب، عندما كان عدّاد الأجرة يفصل بينهما. الآن، عليه أن يحتفظ بالغموض الذي يمنحه قوة تفاوضية أكبر حول السعر في نهاية الرحلة. لو قال للراكب عبارة من قبيل: إنه الخريف أو إنه الشتاء، سيفهم الراكب أنه يتودد إليه بعبارة ليس لها معنى. وعندما تنتهي الرحلة سيغادر السيارة ويلقي إليه من موقع القوة نصف ما يستحق من أُجرة على الرحلة التي تقطعها السيارة زحفاً. السيارة العجوز ليست ضعيفة، لكنها تزحف مثل غيرها من السيارات حولها بسبب الزحام.
عطس وفكر: إنه الخريف!
ولكن الراكب يعرف ذلك، وسيكون من السخف أن يقول له شيئاً كهذا، سيعتبره الراكب اعتذارًا ملتويًا عن رائحة الدخان داخل السيارة.“علي أن أعترف أن دخان الاحتراق في سيارتي القديمة يزيد من كثافة دخان الشارع. والراكب لا بد يشعر بهذا، وسيعتبرني أحايله لكي يدفع كما لو كانت السيارة جديدة تماماً”.
صار الجو خانقاً في السيارة الأجرة التي توقف زحفها فوق الجسر. فكر السائق “إنه الصيف حل فجأة وهزم الخريف” أعجبته العبارة التي فكر فيها. نظر إلى الراكب نافد الصبر بجواره. فكر للحظة أن يقول له: “إنه الصيف يهاجم” أو “إنه الخريف يراوغ” وقبل أن ينطق اكتشف أن العبارتين بلا معنى. وأنه لو قال شيئًا من ذلك فربما لن يفهمه الراكب، وربما يظن أنه يحاول أن يستميله بجملة بلا معنى. الجميع يعرف أن الصيف صار عنيفًا منذ سنوات، وتمدد على مدار العام. لم تعد الفصول الأخرى تتمكن من دخول هذه المدينة إلا خلسة خلال أيام معدودة تبدو خريفًا أو شتاءًا أو ربيعًا، لكنها ليست الخريف ولا الشتاء ولا الربيع.
“هذا الرمادي هو لون أيامي لا الأفق” فكر السائق وأعجبته عبارته مرة أخرى، أراد أن ينطق بها ويتحرر منها، والقضية محسومة وليست مجالاً للمماحكة مع راكب عليه أن يدفع في نهاية الرحلة بما يتناسب مع هذا الزحام. “سيارتي ليست ضعيفة، ولا خربة، لكن المدينة صارت جحيماً منذ سنوات طويلة” زمجر بنفاد صبر متظاهرًا بالضيق من الرحلة، وعلى الراكب المتحفظ أن يراعي هذا الجهد، لكن قلة فقط صارت تعرف الذوق والعدل، عندما يغادر السيارة ويصبح طليقاً في الشارع، سيلقي من الشباك بما يراه مناسبًا من وجهة نظره.
***
سيارة أجرة تعبر الجسر الذي يشق المدينة من شرقها إلى غربها. في المقعد الأمامي يمين السائق جلس راكب. طوى الجريدة التي لم يعد بوسعه مطالعة سطورها. نظر إلى الأفق الرمادي حوله. فكر: إنه الخريف!
منذ ثلاثة عقود تحمله سيارات الأجرة فوق هذا الجسر، ويقرأ هذه الصحيفة وينظر إلى هذا الأفق. كان يعرف الخريف بلسعة برد خفيفة تداعب الزغب الأسود على ذراعيه فيحس بقشعريرة لذيذة. كان بعض السحاب الأبيض يتجمع في سماء زرقاء. وكانت عناوين الجريدة تعد دائماً بأشياء سعيدة لا تتحقق، لكنه لم يتحول عن قراءة الصحيفة في التاكسي. ولم يكن الأفق يتحول إلى الرمادي في أي فصل من فصول السنة. منذ أكثر من عقد بدأ زغب ذراعية يفقد صبغته شيئًا فشيئًا حتى صار في بياض الثلج، وصار إفريز الجسر أسود والبنايات من الجهتين سوداء، وصار الأفق رمادياً، ولم تعد عناوين الصحيفة تعد بأشياء سعيدة، بل بدأت تنفي أحداثًا حزينة تقول إن الشائعات تختلقها. لم تزحف المدينة إلى الشمال حتى تحصل على خريف رمادي، لكنها اتخذت هذا اللون الجديد من دخان السارات وربما من بخار الرصاص المتصاعد من حبر الصحف التي صارت أكثر من اللازم في السنوات الأخيرة. فكر أن المدينة هي المدينة، لا شيء يتغير، وهذا اللون هو محض سواد الأيام.
نظر إلى السائق السارح بجواره، أراد أن يقول له عبارة بلا معنى، من تلك التي يكسر بها الغرباء الصمت. فكر أن يسب الحَلوف الذي تصدرت صورته الصفحة الأولى. لكنه فكر أن السائق سيعتبرها إشارة تودد. كأنه يريد أن يقول له: “أنا مثلك، رغم الأناقة التي أبدو عليها، أنتمي إليك وليس إلى اللصوص”. ولن يكون ذلك حلواً. سيظن السائق الذي يحيا بالارتياب أن الراكب ضعيف ويحاول أن يستعطفه حتى يكون رحيماً به عندما تنتهي الرحلة، يحاول أن يثنيه عن أجرة مبالغًا فيها قبل أن يفتح الباب ويسمح له بمغادرة التاكسي. فكر أن يقول إن الرجل الذي جعل الأفق رماديًا هكذا لن يموت. لكنه تراجع، لن يحمل السائق عبارة كهذه إلا على أحد وجهين؛ إما أن يعتبر الراكب منافقًا يتودد إليه بعبارة ليست ذات أهمية، أو يعتبره رجل أمن متخف يحاول استدراجه إلى رد فعل يبتزه به.
فكر أن يكتفي بعبارة عامة لا تعني شيئاً: إنه الخريف.
اختلس نظرة أخرى إلى السائق السارح بجواره. وكان على وشك أن يهتف به: “إنه الخريف” لكنه تراجع.
خلال ثلاثة عقود، كان يتحدث إلى السائقين بمنتهى البساطة، لكنه كف عن ذلك؛ لأن الاحتفاظ بالغموض يمنحه قوة تفاوضية أكبر حول الأجرة في نهاية الرحلة. لو قال للسائق عبارة من قبيل: إنه الخريف أو إنه الشتاء، سيفهم السائق أنه يتودد إليه بعبارة ليس لها معنى، وعندما تنتهي الرحلة لن يدعه يغادر السيارة، وسيطلب، من موقع القوة، ضعف ما يستحق من أجر على رحلة قطعتها السيارة العجوز زحفاً. السيارة العجوز ليست ضعيفة فحسب، لكنها قذرة وصوتها عال ورائحتها نتنة. وليس من العدل أن يدفع للسائق كما لو كانت جديدة.
“السائق يدرك أنه الخريف، وسيكون من السخف أن أقول له شيئاً بديهيًا كهذا، سيتصور أنه اعتذار مبطن عن توصيلي إلى وجهة طريقها مزدحم. عليه هو أن يعترف أن دخان الاحتراق في سيارته يخنقني، وألا يتوقع أن أدفع له كما لو كانت السيارة جديدة تماماً، ثم إنني لست مسئولاً عن الزحام لكنه مسئول عن سيارته”.
صار الجو خانقاً في السيارة التي توقف زحفها فوق الجسر. فكر الراكب “إنه الصيف يُبلطجُ ويحتل أيام الخريف” أعجبته العبارة. نظر إلى السائق المتوتر بجواره. فكر للحظة أن يقول له: “إنه الصيف يستولي على العام”. وقبل أن ينطق اكتشف أن العبارة بلا معنى. وأنه لو قالها سيظن السائق أنه يحاول أن يستميله. لا بد أنه يعرف أن أيام هذه المدينة صارت صيفًا دائمًا، وأن الفصول الأخرى لم تعد ترسل سوى بعض مظاهرها، كأصوات استغاثة سرعان ما تختفي تحت هراوة الصيف. هذا الرمادي لا يعني الخريف، هو لون الأيام لا السماء. القضية محسومة وليست مجالاً للمماحكة مع سائق عليه أن يطلب في نهاية الرحلة ما يتناسب مع سيارته الخربة. من باب الاحتياط زمجر بنفاد صبر ليعطي السائق المتحفظ إشارة ضيق.
***
كان الجسر يمتد بلا نهاية، والعربات المتوقفة تنفث دخانها. نظر كلاهما في عيني الآخر، ثم إلى الأفق الرمادي. كان واضحاً لكليهما أنه الخريف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*من “السماء على نحو وشيك” التي صدرت حديثًا عن دار بتّانة.