من بين الأحداث المهمة في الثورة الفرنسية، مسيرة نسائية انطلقت في 5 أكتوبر 1789إلى قصر فرساي، وكان على رأس مطالبها عودة الملك لويس السادس عشر للإقامة في باريس كدليل على حسن نيته في الإنصات لمتاعب الشعب.
كان فرساي في الأصل بيتًا ريفيًا صغيرًا بناه لويس الثالث عشر عام 1624 كاستراحة في ضاحية فرساي التي يمارس فيها هواية الصيد، قبل أن يأمر لويس الرابع عشر بتوسعته وتحويله إلى مقر دائم للحكم.
مطلب الثائرات الفرنسيات كان التعبير التاريخي الأول عن الوعي بخطورة انفصال الحكم عن الشعب عمرانيًا، وإدراك أن اختيار الطبقة الحاكمة للانفصال مكانيًا يعبر عن احتقار الطبقة الحاكمة للمدينة وإهمالها.
وكان كل ما تبعده الأسرة الملكية الفرنسية عن المدينة نحو خمسة وعشرين كيلو مترًا، بينما وصل مبارك بانفصاله إلى شرم الشيخ، على بعد ما يقرب من الثمانمائة كيلو متر. واختار ابنه وحاشيته التجمع الخامس وأقام رئيس وزرائه الأخير ضاحية 6 أكتوبر. هل هي مصادفة أن يكون سكن محمد مرسي في التجمع الخامس كذلك؟!
كان ازدهار الضواحي الغنية حول القاهرة مؤشرًا حاسمًا على انفصال طبقة رجال المال والحكم عن الغالبية العظمى من المصريين، وكانت القاهرة تتداعى تحت الإهمال يومًا بعد يوم حتى تحولت أحياؤها القليلة المخططة مثل مدينة نصر إلى تجمع عشوائي سكني يتعارك فيه الجيران بسبب ضيق الأماكن المتاحة لانتظار السيارات، حيث أهملت مرافق المدينة وقواعد العمران، على اعتبار أنها لا تخص طبقة الحكم والمال، بعد الانفصال الاجتماعي في النصف الثاني من حكم مبارك، كما عرفته فرنسا قبل أكثر من مئتي عام وأدى إلى ثورتها.
تشابهت مصر في هذا الاتجاه مع غيرها من الدول التي وقعت في فخ ما يعرف بـ “اقتصاد الكومبرادور” أي اقتصاد السماسرة المحليين المتحالفين مع الرأسمالية العالمية، وهو الاقتصاد الذي ساد العديد من بلدان أمريكا اللاتينية والآسيوية، وكذلك العربية.
ولا يمكن القول بأن كل سكان المدن الجديدة من الفاسدين، ولا بأنهم جميعًا من فئة السماسرة، لكن هذه الفئة هي النواة الأساسية وهي بحاجة إلى أجسام تدور حولها وترى نعمتها، وهي ـ وهذا هو الأهم ـ بحاجة إلى زبائن. وهكذا كان لابد ألا تقتصر الضاحية أو المدينة الجديدة على القصور، بل تضم الفيلات الصغيرة والشقق السكنية في عمارات محدودة الارتفاع بدلاً من عمارات المدينة بارتفاعاتها الكبيرة العشوائية.
وجدت الضواحي زبائنها في أفراد الطبقة الوسطى من التكنوقراط المسالمين، الذين يبحثون عن الأمان بعيدًا عن عنف المدينة المتروكة للفوضى. ربما يأتي العدد الأكبر من الزبائن من التكنوقراط العائدين بعد سنوات طويلة من حياة الخليج السهلة ويبحثون عن بيئة مشابهة، وهكذا صار سعر المتر المربع من الشقة في هذه الضواحي أغلى من سعر المتر في الأحياء الموصوفة بالراقية في قلب العاصمة.
ولا تترك البيروقراطية المراوغة المدن الجديدة دون وضع بصمتها اللئيمة لإخفاء مظهر العزل والتفرقة بين المواطنين ببناء بعض الوحدات من الإسكان الشعبي، يتأذى منها سكان الضاحية، وكأنهم بعوضة في العين.
ولكن لهذه الوحدات وظيفة أخرى هي استكمال ترمومتر الترتيب الاجتماعي داخل الضاحية، فهذا هو الحد الأدنى، تليه الشقق بمواصفات فراغ وحدائق محددة فالشقق المصممة بمواصفات وحدائق مختلفة، وهناك الكومباوند الذي يضم عددًا من العمارات داخل سور، مثلما هناك القصر المكتفي بالمسافة بين الضاحية وبين المدينة والقصر المحمي بسور داخل الضاحية نفسها، حيث التعبير الأقصى عن الانفصال. وليست كل الأسوار بذات الارتفاع ولا كل البوابات بذات المنعة والدقة في التفتيش؛ فبينما يخشى كومباوند الميسورين من الطبقة الوسطى اللصوص يخشى كومباوند الصفوة الحاكمة كل من لا ينتمي إلى هذه الصفوة.
والغريب أن تتأذى كل الصناعات والأنشطة التجارية بعد 25 يناير 2011 بينما لا يهتز بيزنس العقارات في الضواحي الغنية التي تمثل التعبير المادي المجسد للفشل في الحد من توحش الرأسمالية التي أسقطت مبارك، بينما تُمثل التتويج النهائي لرمزية مجتمع تحول إلى كانتونات منفصلة في التعليم والعمل والخدمة الطبية.