عن فساد الجسد: اسطوانات الغائط التي تتحرك بخيلاء!

Fernando Botero
Fernando Botero

وأمام إصراره على ترك بصمة أو علامة، لا يتمكن الفساد إلا من التأثير في اللحم، حيث يتحول النمو العشوائي في الثروة إلى لحم رخو، ناعم النسيج وتافه مثل أطراف سمك الحبّار الهلامية. ينمو سريعًا ويتجمع كثفًا على جسد لم يكن مستعدًا لاستقباله. ولأن هذا اللحم بلا تاريخ مشترك مع صاحبه، فهو لا يستطيع أن يتعاطف مع مشاعره أو يشاركه حمل همومه. وهذا هو ملمح البلاهة المخادع الذي  يبدو في الوجوه الفاسدة وتصفه بيئة إسلامية لا تتعاطف مع الخنازير  بـ ” الخنـزرة ” أي افتقاد الوجه لوظيفته التعبيرية، حتى لا يعود ينقصه إلا الخطم ليصير صاحبه خنزيرًا حقيقيًا.    ويتطلب الأمر سكينًا مثلومًا أو جاروفا نزيح به طبقات اللحم الفاسد كروث طازج لكي نكشف عن الوجه الأصلي ونرى المعاناة مدفونة على الوجه القديم للراعية الذي اختار الالتحاق بعربة الفساد!

بالطبع لابد لنسبة الشذوذ في أية قاعدة أن تعمل عملها، وهذا يجعل بعض الفاسدين يفلتون من خنـزرة الوجه، مثلما يفلت مجرم عادي من توصيف لامبروزو. ولا يؤثر هذا في صلاحية القاعدة، بل يؤكدها بالنسبة للأغلبية من أبناء الحظ  السيئ، الذين يطفح فسادهم على ملامحهم.

من الملاحظ أن تشوهات الوجه الفاسد تكون مصحوبة، أومتبوعة في الغالب بتحولات في القفا. تلك القنطرة بين الأرفع والأدنى في الجسم الإنساني التي لا يمكن أن تستوقف باحثًا غربيًا أو تثير لديه ملاحظات مهمة باستثناء بعض اعوجاج عند عمال البناء وبعض ألم في فقرات العنق لمن يعملون خلف المكاتب وبعض ضخامة في أعناق رافعي الأثقال تتناسب مع ضخامة أجسادهم، لأن القفا الفاسد مثل الوجه الفاسد منتج أصيل للركود السياسي من الصعب أن يصادفه أبناء مجتمعات الحيوية.

    ولأن الباحث العربي كسول بطبعه فقد اقتفى أثر الغرب في إهمال القفا! لكن الإهمال الحالي مجرد تراجع مذموم عن أجدادنا، وقد تكفلت بوصف القفا دراسة نادرة للقاضي شهاب الدين أحمد التيفاشي ( 1184 ـ 1253م ) الذي خصص للقفا الباب الأول من كتابه ” نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب ” أحد أشهر كتب الإيروتيكية العربية.

   أعطى التيفاشي دراسته عنوانًا غريبًا ” الصفع وما فيه من الفوائد والنفع ” وتناول فيها بجدية ظاهرة فوائد الانصفاع،  الذي  ليس كمثله شيء “في بقاء صلاحه  على مر الزمان وتقلب الأيام، ومتى استعمل كان حاضر النفع، ظاهر الحقوق والرفع، لا يؤدي إلى فساد في دين، ولا يتعقبه نقص في دنيا، ولا على الأنفس منه مثقلة، ولا على الأجسام منه أذى، يدخل في أبواب الخير ويخرج من أبواب الشر “. ويعتبر التيفاشي القفا القابل للصفع معبرًا إلى الجاه ” وذلك أن الإنسان إذا عرف بهذا الأمر يحضر دار السلطان ويدخل في جملة الخاصة ويخرج من عيار العامة إلى حيث لا يصل إليه إلا القائد الجليل “!

يبدو باب الصفع لدى التيفاشي مفتتحًا غريبًا لكتاب مكرس أساسًا للجنس، لكن الغرابة سرعان ما تتبدد بالنظر إلى تبويب الكتاب، فعلى كثرة أبوابه يختار التيفاشي أن يتبع باب الصفع مباشرة  بباب ” في أصناف القوادين والقودات”. وهو ما يشي بحجم غضبه وقرفه من المنصفعة الذين سقطت على أقفيتهم في مجالس اللهو الدولة العربية في زمانه، وربما يكون قد ألّف كتابه كله خصيصا من أجل هذا الباب، وقدَّم الفاسدين المنصفعين على القوادين من أجل تعظيم المذمة التي يستحقها صاحب رأي مدلس، يتضاءل جرم من يقود على امرأة إلى جوار جرمه، لأنه ـ بتضليل السلطان ـ يقود على أمة.

ملاحظة الواقع تثبت صلاح نظرية التيفاشي وقوة ملاحظته لطبيعة السلطة المستبدة، فرغم أن مظهر الاعتداد بالنفس هو أهم ما يبدو من السلطة والملتحقين بها لعين الرعية الضجر، إلا أن جوهر بناء هذا النوع من السلطة يقوم على الاستعداد المبدئي للانصفاع وهو العامل الحاسم في اختيار المسئولين بدولة الفساد، إلى جانب صحيفة سوابق عامرة بالطبع.

وأحيانًا ما تحدث أخطاء نادرة تتسبب في اختيار أشخاص يمتلكون أجسادًا تكتسب اعتزازها من ذاتها ويصعب عليها الانحناء، وسرعان ما يتم إصلاح الخطأ بلفظهم واستبعادهم، بينما يزداد اقتراب المنصفعة ويدوم زمانهم. وتفعل مداومة الانصفاع فعلها إلى جانب المحاولة اليائسة لإشباع الجوع التاريخي (بالتهام كميات كبيرة من الطعام يتيحها النمو العشوائي للثروة ) فيتجه القفا الذي دخل الدائرة مفردًا إلى التشابه مع غيره من أقفية المنصفعة مهما اختلفت الوظائف مثلما تتشابه الوجوه؛ بحيث لن ترى إلا اسطوانات بليدة من الغائط تتحرك بخيلاء!

ـــــــــــــــ

* من فصل “مسخ الكائن” كتاب الأيك.