استقرت في أدبيات السياسة نظرة إلى السلطة بوصفها شرًا منفصلاً عن كل ملائكي اسمه “الشعب” وكأن هذه السلطة هبطت من كوكب آخر. والوضع ليس على هذا النحو أبدًا؛ فهذه السلطة هي بعض من هذا الشعب، ارتقى أفرادها أعناقه بما لهم من بعض سمات فرعية خاصة تجعلهم في هذا المكان، لكنهم من الشعب ذاته، ويشتركون مع الأغلبية الملائكية في بعض من أحط صفاتها، كالعناد وانعدام الطموح ومقاومة المعرفة، وانعدام الحساسية تجاه العالم.
المرافعة السياسية أعلاه، نتيجة حوار مع سائق تاكسي جمعتني به مصادفة سعيدة. كنا ثلاثة، استوقفناه في ميدان عبدالمنعم رياض ليحملنا إلى الزمالك. أخذنا مقاعدنا واستأنفنا حديثًا بدأناه في الشارع، لكن صوت الراديو كان يلعلع بعذاب الآخرة في التاكسي ذي الرائحة القذرة الفواحة، وكأنها بعضًا من رائحة جهنم التي يتوعدنا بها واعظ الراديو. قال الصديق من الخلف، لو سمحت ممكن تقفل الراديو؟
نظر السائق إليه في المرآة بتحد، ولم يفعل شيئًا، ولما كنت في المقعد المجاور للسائق، سألته: هل تعرف “أوبر”؟ قال نعم، قلت وتعرف مشكلتكم معها؟ قال لست مهتمًا. قلت: إذن، هل تعرف مشكلتكم معنا، نحن مستحدمي التاكسي؟ نظر إليّ بكسل من ينتظر بأقل قدر من الفضول سماع المشكلة. قلت: أنكم تعاملون الزبون وكأنه ضيف تطفل على المملكة الخاصة للسائق، بينما أنت تؤدي خدمة، ويجب أن تلبي حاجة الزبون. وكأنه لم يسمع شيئًا مني. دافع عما يعتقده بكل عناد. أنا رجل لا أهين أحدًا، أشغل العداد، ولكن أسمع ما أريد. وما كان من الصديق المستفز في الخلف إلا أن أعاد عليه الطلب مُصرًا. فأدار السائق بكل ثبات مؤشر الصوت بتخفيض قليل، وسأل الصديق: “كويس كده؟” ورد الصديق: “لأ مش كويس اقفله” ورد السائق بتخفيض ثان للصوت وانصرف يصارع الوحوش الأخرى بما يؤكد أنه ليس على استعداد للتنازل أكثر أو الانشغال بغرابات ركاب مجانين.
ألمحت لصديقي، دعه، لا داعي للانفعال. وعندما وصلنا كان عداد الأجرة قد قطع تسعة جنيهات، أخرجت له ورقة بعشرين جنيهًا فهرش وأخرج كل ما في جيبه وأطلعني عليه: ليس معي فكة. طوحت له العشرين وانصرفت مبرطمًا، بينما لم يعرف صديقي الكريم جدًا طعمًا للعشاء، بين وقت وآخر يعود للقضية: أنت تعرفني، لكن جنيه خسارة في شخص كهذا.
ولم يكن ما أخذه هذا الشخص عن غير وجه حق ما يحيرني، بل كونه من الكثرة الملائكية، وهو لا يختلف في سلوكه عن صاحب مطعم ضخم يفاجأ بأن كشكًا أقامه سوري للسندويتشات قد استقطب كل زبائنه. وبدلاً من أن يراقبه ليعرف السر ويحاكيه في النظافة والإتقان وأدب الحديث مع الزبون يجد من الأسهل الوشاية به لسلطات الأمن.
السائق وصاحب المطعم ـ على الرغم من أنهما يؤديان خدمة خاصة ـ لا يختلفان عن كتائب الموتى من الكثرة الملائكية التي تقاوم المعرفة واكتساب الخبرة في مؤسسات الدولة ووظائفها البليدة.
هذه الكثرة الملائكية هي الأم والحاضنة للنخبة السياسية التي تقاوم التعلم من التجارب وتعيدها حرفيًا، وهذه الكثرة مع نخبتها من الموتى ستقود مصر إلى مستقبل غائم، غير عابئة بمرور الزمن ولا بمنافسة أوبر، أو طباخ سوري أو صانع صيني!