استشراق الموت: دماء البشر فدموع التماسيح وهكذا دواليك!

المتهم بلا وجه ورجل الأمن كذلك..حرب مُقنّعة.
المتهم بلا وجه ورجل الأمن كذلك..حرب مُقنّعة.

للساسة الغربيين أن يعلنوا تضامنهم مع بلجيكا، مع فرنسا، أو أية دولة يضربها الإرهاب. لهم أن تخونهم دموعهم حزنًا على الضحايا، في لحظة صدق إنساني، وهناك دائمًا المزيد من الدموع، والمزيد من الورود لتغطية جثامين الضحايا.

لكن لنا أن نلاحظ أن كريشندو الإرهاب ترافق مع اختفاء الربيع الغربي الذي صاحب الربيع العربي عند انطلاقه، بينما تحول الأخير بفعل التعاون الدولي من حركة شعوب تتطلع إلى الحرية إلى حروب مجنونة لا تعرف شرف الحروب وقواعدها.

في “وول ستريت” وفي مدريد وروما وأثينا عام 2011 كان الغاضبون واعين بأنهم جزء من حركة عالمية أتت شرارتها من الجنوب الرازح تحت خلطة من الاستبداد العسكري الديني والقبلي، وقبل أن يبدأ التشبيك العالمي في خلق ظاهرة “عولمة الغضب” في وجه عولمة السلعة، تم تنشيط خطر الإرهاب ليعيد رسم الحدود والمعسكرات، بحيث تسهل السيطرة على ساحات الاحتجاج المنفردة وخنق كل زهرة على حدة.

الغاضبون الأوروبيون احترموا الأوليات، لم يعد لدى اليونانيين وقت للحشد ضد الإجراءات المالية المجحفة بالفقراء التي يفرضها عليهم الاتحاد الأوروبي، ولم يعد لعمال مدريد أو ميلانو أن يتذمروا من ظروف عملهم الصعبة، ولم يعد لموظفي نيويورك أن ينظروا بحسد لسماسرة البورصة ومدراء البنوك. الوقت الآن مخصص للاعتصام ضد الإرهاب أمام بلدية باريس الجميلة التي تمثل تقاليد عصر النهضة، في مواجهة هجمة الإرهاب الأعمى القادم من مدن الرمل عديمة الحضارة، عديمة الإنسانية.

حشود الخائفين بدلاً من حشود المحتجين.
حشود الخائفين بدلاً من حشود المحتجين.

وبرج إيفل مطواع لاستقبال علم بلجيكا أو علم فرنسا أو بالإظلام التام حدادًا فـ “حضارتنا هي المستهدفة” كما صرح العديد من المسئولين في أحداث باريس، و”أوروبا هي المستهدفة” كما صرح أولوند تعليقًا على أحداث بلجيكا.

بعد الدموع على ضحايا بلجيكا، ستمضي أوروبا في طريقها، وستحمل الرياح تصريحات الساسة الأوروبيين بمحاربة الإرهاب، وسيستعيد برج إيفل إضاءته العادية، انتظارًا لضربة قادمة تعيد تضامن ضحايا الرأسمالية مع جلاديها، كما تعيد رسم صورة الشعوب المتخلفة جنوب المتوسط!

لون جديد من الاستشراق؛ استشراق الدم، لأن أجيال المستشرقين التي مهدت طريق  الجيوش الأوروبية  إلى الجنوب لم تعد موجودة، تمرد الفكر الغربي الحديث على خدمة الغزو. باستشناءات قليلة لا تتمتع بسمعة حسنة في الأوساط الفكرية، من أمثال  برنار هنري ليفي،  وهؤلاء لا يكفون لرسم لوحات وكتابة حكايات أسواق النخاسة في البلاد المتخلفة، فكان لابد من إطلاع الجمهور على عينة من تخلف لتلك البلاد، بين فترة وأخرى.

هذه هي الوظيفة المزدوجة لاستشراق الدم: إثارة رعب الجمهور الغربي ودفعه إلى التضامن مع جلاديه، وتأكيد حاجة الجنوب الإسلامي للتدخل الغربي. ولهذا لم يقترح أحد من ساسة الغرب شكلًا واقعيًا للحرب على الإرهاب، سوى المزيد من الإجراءات ضد اللاجئين من سورية والعراق. لم يتحرك أحد من أجل إعادة العراق أو سورية أو اليمن وليبيا إلى أوضاعها كدول مستقرة، لأن هذا الاستقرار ليس في مصلحة المتباكين على الضحايا، الذين قد نصدق دموعهم، لكننا لا يمكن أن نثق في أفعالهم.