الغرب لا ينقصه الجنس، بل ينقصه أن يتلصص على طريقتنا في الجنس

o-Keefe سيدة الورود الفاحشة
o-Keefe
سيدة الورود الفاحشة

هل هذه الرحلة ضرورية؟

لا أعرف كيف سأنتظر. طيفك لم يفارقني طوال ساعات نومي المشوش. كنا في بيت عربي بجوار البحرة، كنت مقرفصة تدارين صدرك بيديك، بينما أخفيت بجسمي بقية جسمك، وأخذت أتطلع إلى السلم الحديدي الصاعد إلى غرف الطابق الثاني، والشبابيك المطلة على الحديقة لمعرفة إن كان هناك من يراقبنا. لم يكن خوفاً، بل مجرد فضول مشوب برضى استعراضي ينافي طبيعتي في اليقظة.

استعدت المشهد بعد استيقاظي، وتذكرت أن البيت لم يكن سوى المطعم الحلبي، الذي قادتنا خطانا إليه ذات ليلة.

كنت غارقة في سكينة لم أجد طريقة لإخراجك منها. لا حرش أظافري الخفيف لظهرك أعادك، ولا قبضة ساقي على ساقيك هزمت صمتك، فيم كان شرودك؟ وما الذي لم تبوحي به، إن كنت حقاً ترفضين مذهب  بيسوا في التكتم، كما تقولين في رسالتك؟!

أمزح، لن أحاسبك على صمت الحلم. ومن حقك أن ترفضي منطق بيسوا، هو يكتب من مساحة عزلته. وأظن أن غواية الكتابة في جمالها، لا في الفكرة. وأعترف الآن أمامك وأمام نفسي أنني تبنيت عبارته من دون أن أتأملها، لكن ألا تعتقدين أن البوح للصديق أو الحبيب يختلف عن بوح الكتابة؟

أظن أن مقولة بيسوا تبقى صحيحة فيما يتعلق بالإبداع. ذلك النوع من الكتابة أصبح مشكلة حقيقية، فهو مثل موجات التشويش التي كانت الحكومات تطلقها ضد الإذاعات المعادية.

اليوم هاتفني محمد البساطي، لا ليسألني أن أعيره رواية كلاسيكية من مكتبتي  أو أرد إليه أخرى لأن الهوى هفه إليها من دون أن يجدها على رفوف مكتبته (ويفترض طبعاً أنني مستعيرها) ولا ليتندر على مقال في صحف الصباح، بل ليعلن عن دهشته لاكتشافه المؤسف:

ـ  تعرف يا واد، أنا اكتشفت اني بكتب غلط طول عمري؟!

انتزعت دهشة البساطي الطفولية الضحك مني، لأنها ذكرتني بفنان طفل آخر، قضى عامه الأخير، بدهشة وحسرة اكتشافه ذات سهرة مواتية، أنه كان طوال حياته يدخن زبالة لا حشيشاً!

والروائي الذي قضى حياته يتدرب على ارتداء الأقنعة في الكتابة، كان قد قرأ أن رواية إثارة عربية وزعت في أسابيع عشرات الآلاف في طبعتها الفرنسية.

ضارباً كفاً بكف ـ لم أر كفيه، بل سمعتهما في دهشة صوته عبر الهاتف ـ  قال:

ـ الله! الغرب ناقصه جنس عشان ينتظره في الكتابة؟!

وأنا برأيي أن الغرب لا ينقصه الجنس، بل ينقصه أن يتلصص على طريقتنا في الجنس. البث المباشر للقتل زود المشاهد الغربي بطريقتنا في الموت، وتركه متشوقاً لمعرفة طريقتنا في الحياة.

أصبح المجتمع العربي كله مجالا حيوياً لرغبات التلصص المشروعة، ولم تنجح الكاميرات المصوبة نحو الدمار في إشباع هذه الرغبات، وكان على روايات البوح والاعتراف الخفيفة أن تؤدي  هذه المهمة.

ولامشكلة في هذا، فالغرب يستطيع أن يرصد أدق أسرارنا الحربية والسياسية، ولن يضيرنا أن يعرف أسرارنا الجنسية، لكن المشكلة أن تلك الروايات ـ متسلحة باعتراف الغرب ـ  يعاد تصديرها إلينا باعتبارها الكتابة؛ لا تقنع بالسير في مدق منفصل عن الأدب، مثلما كان الوضع سابقاً في سلاسل روايات المراهقين، والكتب الأكثر مبيعاً مثل أسرار ليلة الزفاف، وكيف تكتب خطاباً غرامياً.

والناشرون، الذين عاشوا بيننا كل هذا العمر بعشوائية لذيذة، اكتشفوا أخيراً أن الكتاب يمكن أن يكون سلعة رائجة، مستفيدين من شهادة الأيزو الأدبية التي تمنحها الدور الأجنبية لهذه الرواية أو تلك، لترسيخها نموذجاً للإبداع، بل ربما بداية للكتابة الروائية في هذا البلد العربي أو ذاك.

ليذهب من يعرفون فضائل التخفي إلى مصيرهم، فالسوق، تستطيع أن تخترع ما شاءت من بدايات، وأن تتواقح وتدعي أن تاريخ الكتابة بدأ بهذه الموجة الاستهلاكية، والأقل وقاحة أن يجد خبراء التسويق أو يجد الكاتب لنفسه شيئاً يكون الأول فيه.

تقديم الجديد هو أحد عناصر الإبهار في سياسة السوق،  وإذا تعذر الادعاء بأن هذا الكاتب أو ذاك هو بدء تاريخ الكتابة في بلده، فعلى الأقل يجب أن يجد لنفسه بداية مناسبة، كأن يكون أول من  قدم الشذوذ، أو تكون الكاتبة أول من قدمت زنا المحارم، أو غير ذلك من سوابق!

ولا يمكن لكل هذا أن يهز اقتناع كاتب متمرس بطريقه ـ دعينا من اكتشاف البساطي الساخر ـ لكننا لا نستطيع أن نخمن مدى تأثير هذا المناخ  على الكتاب الجدد ممن يخطون خطوتهم الأولى على طريق الأدب، لأن من يتصدى للكتابة من المفترض أن يمتلك من الوعي ما يمكنه من اختيار طريقه، بناء على تكوينه وعلى علاقته بالأدب: هل تمثل الكتابة بالنسبة إليه فعلاً وجودياً ووظيفة حيوية لا تنفصل عن جسده، أم يريد أن يحصد من ورائها الشهرة؟ وهذا النوع الأخير  غير مأسوف عليه، لأنه ينصرف عن الكتابة بمجرد اكتشافه طريقاً أسهل.The book of seduction

الخسارة كل الخسارة، يوقعها أدب البوح ومروجوه بالقاريء الذي يشحذون ملكات التلصص عنده، خصوصاً تجاه المبدعة الأنثى،  حتى أصبح من الصعب إقناعه بوجود مسافة بين الكاتبة وبين روايتها أو بين الشاعرة وقصيدتها. وفي بحثه المحموم في استقراء ما يعتبره  طريقة هذه الكاتبة أو الشاعرة في التقبيل أو الضم، لايمكن أن نقنعه بجمال في الصورة أو في اللغة.

البوح يضع فم الآكل في مكان بعيد من التفاحة، أو دعينا ننظر للمشاركة بين القاريء والكاتب بطريقة أخرى، أو بمثال من زماننا، ولنعتبرها نوعاً من المباراة بين المبدع والمتلقي، مباراة في الأحلام والأخيلة، وإفساد القاريء يعني إبادة أحد الفريقين، قبل أن تبدأ المباراة!

دعينا من كل هذا؛ فالعلاقة مع الرواية تتحسن، كتبت فصلاً جديداً. أظن أوشك العمل على الانتهاء، أحتاج إلى أيام قليلة، بعدها أتركها لتجف، وأجيئك لأبتل.

استنسخت لك وردة  جورجيا أوكيف الفاحشة على حرير وسأحملها إليك. سيدة المجاز ستغمر لقاءنا بالدفء.

هل تعرفين أكثر ما أشتاق إليه الآن؟ ملمس ورائحة ماء الوردة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • من كتاب الغواية