لا يكف السجين عن عد أيامه، بادئًا استسلامًا يشبه الرضى إلا عندما تنقطع علاقاته بالحياة خارج زنزانته في مصادفات حزينة؛ كأن يبلغه نبأ موت أمه، أو فرار الزوجة مع صديق، أو عندما يكتشف أنه وصل إلى الحبس بوشاية من رفيق كان محل ثقته.
البرج لا يدع مجالاً للمصادفات، وإنما يحتاط ويقصقص جناحي الطارىء حتى لا يتمكن من الطيران. لا يفعل ذلك بالإجراءات الخشنة المدانة إنسانيًا، كالأقفال الضخمة على أبواب الغرف أو السلاسل الثقيلة على كواحل المساجين، بل بالحيل اللطيفة التي لا تدع فرصة لتفاقم مشاعر السأم.
هناك دائمًا ما يأخذ الطارىء نحو الاستسلام الطوعي أو حتى الغبطة بوجوده في البرج؛ كأن يفاجئه صنف غير متوقع من الطعام على الغداء، أو تغير لون مفارش الطاولات أو تسرب فتاة من الفرز الأول للخدمة في المطعم بين فتيات الفرز الثالث، أو حتى لتدفع بعربة النظافة في الممرات بين الغرف.
وكاثرين من بنات الفرز الأول منظورًا إليها بعين طارىء متعجل، لكنها فريدة بعين طارىء متأمل لجمالها المستغني عن خضاب فتيات الاستقبال.
جفنها الواسع النعاس يُعلِّم الغزل. وجهها كله من النوع الهجين الذي يخرجها من الوطنيات الضيقة الجالبة للحروب ويجعلها صالحة لأن تكون نجمة في هوليوود أو بوليوود أو بائعة في الأسواق الحرة الدانماركية أو نادلة في مطعم بجزيرة العرب.
كاثرين فوق ذلك تمشي مرفوعة الرأس بقامة أطول من قامات نساء بلادها، وأطول ما تكون كاثرين يوم الجمعة؛ حيث ترتدي النادلات فساتين حريرية ملونة بلا أكمام مع شالات تلاعب العيون سترًا وتعرية.
كاثرين في اليوم السابع تكون أكثر فتنة وأطول عنقًا مما هي عليه في ستة أيام ترتدي فيها البنطلون والبلوزة مع مريلة صغيرة تغطي المنطقة الأكثر عرضة لانسكاب النظرات، حيث تتعلق المريلة بزنار يُخصِّر الخصر وتنسدل من فوق السِوّةِ إلى ما فوق الركبة.
تبدو في الفستان ملكة بين وصيفاتها، يكشف ابتهاجُ الحرير على جسمها عن رهافة نبيلة في أقواس النهدين والردفين. تبتسم للطارئين بعزة ترجح أنها كانت ملكة في حياة سابقة. وبالنسبة لعينٍ فنانةٍ فتنتها سرة تحت فستان كتاني في لوحة من الحجر لن تكون كاثرين سوى واحدة من العازفات الفرعونيات المنذورات لبهجة الملك الإله.
كاثرين أحست الإعجاب في عينيه، وانهزمت داخلها تعليمات البرج عندما سألها عن صحتها. كان فيما يبدو الوحيد الذي لاحظ شحوب وجهها ذات يوم.
ـ نعم سيدي، متوعكة قليلاً، ليس شيئًا خطيرًا، شكرًا لك، شكرًا سيدي، شكرًا.
غمر عينيها امتنان لا يشبه ذلك الذي يحسه المرء تجاه غريب، إذ أخذ لسانها يتدافع بعبارات الشكر كما تدافعت يدها ذات مرة بمنشفة لتجفيف ما انسكب على طاولته، لكن مهارة اللسان لم تتمكن من إزالة أثر الحنان في كلمات متكررة بنهايات متلاشية.
بدأت تعامله كصاحب بيت، تسأله إن كان يريد أن يشرب شايًا أو قهوة مخصوصة. وهو الذي يقدس نومة القيلولة بدأ يشرب القهوة بعد الغداء، وصار يطيل زمن بقائه في المطعم قدر المستطاع. يتطلع إليها متشهيًا كلما مرت به، وترد بابتسامة من شفتين غضتين، وتُسرِّب إليه من بين شقي الجفون نظرة امتنان، يتقبلها فرحًا مثلما يتقبل شاكرًا الضيافات المميزة التي تقدمها إليه كلما وجدت فرصة.
في عشاء جمعة متأخر، كانت أعداد الطارئين ضئيلة بالمطعم. وقفت كاثرين أمام الطارىء، وسألته:
ـ هل تحب أن تجرب الآيس كريم سيدي؟
ـ أحب كل ما تقترحين.
أجاب الطارىء؛ فابتسمت واحمرت قليلاً. ذهبت وعادت بالآيس كريم. وضعته أمامه ورمقته بنظرة ودود، بينما هشّم عبور طارىء آخر كلمات الغزل القليلة التي رتبها بالإنجليزية. لم يتمكن من جمع نثار الجملة لينطقها ، لكنه تماسك في النهاية وشكرها باقتضاب، وأخذ يصرف تلعثمه في مداعبة الكرات الباردة بطرف الملعقة، بينما انصرفت كاثرين إلى حاجز في زاوية قصية تشارك زميلاتها في إعداد مفارش الإفطار، ترمق صورته المنعكسة أمامها على زجاج الواجهة، تبتسم لعينيه المتعلقتين بصورتها . وعندما رأت سكونه على الزجاج، خطت نحوه تحمل الطبق من أمامه.
العين المحايدة سترى اهتمام كاثرين التزامًا بلطف تقتضيه الوظيفة، وربما تقول عين ذكورية غيور إنه قد شغف النادلة المميزة حبًا، وقد يراه آخرون غشًاشًا يُربك تقاليد الضيافة الرفيعة ويستميل النادلات بعطايا صغيرة .
لم يهتم كيف ينظرون إليه، ولم يحاول معرفة سر اهتمامها، مستغرقًا في مراقبة دخول وانصراف الطارئين، منتظرًا فراغ المطعم إلى حد يُمَكِّنه من تركيب جملة هامسة يحملها إليها بقلق نادلة تحمل عمودًا مائلاً من أطباق القيشاني الفخمة. يغافل الآخرين ويهمس بكلمات غزل تتعثر في أذيالها، بينما تبدو كاثرين ملكة مطمئنة.
ـ أعجبك سيدي؟ إنه خاص بالبرج.
لا يمكن لإدارة مراقبة النادلات أن تلحظ شيئًا في كلماتها الوظيفية الباترة، ولم يوجد بعد اختراع لرصد المشاعر يمكنه أن يسجل الرفيف الرهيف لأهدابها والغصة اللا إرادية التي تفاجئها في الحرف الأخير من ردها المجامل، عندما تضبط عينيه متلصصتين على نهديها الصغيرين لحظة ميلها لحمل الطبق. يعبر رأسه خاطر يصيبه برجفة خاطفة.
ـ هل أبقى حتى أرى اختراعًا فضيحة كذاك؟
يحشد القليل من الجرأة التي يملك، مستأنسًا بدعم خاص من اللغة الإنجليزية، حيث يعجز اللسان عن إدراك طعم الوقاحة في اللغة الغريبة.
I like your eyes more than any ice cream.-
ترد كاثرين بغبطة محتشمة:
Thank you, Sir .-
ـ هل من الممكن أن أحصل على رقم تليفونك؟
ـ بكل سرور.
أملته الرقم، وطلبت منه أن يسجله باسم “مالو” لأن الاسم الذي تحمله على شريط معدني فوق صدرها ليس اسمها الحقيقي.
قالت، وابتسمت عيناها. ودعها منصرفًا بابتهاج مضطرب. وكان أول ما فعله بعد أن أغلق عليه باب غرفته أن كتب لها رسالة دافئة، تأملها مرارًا، خفف وزاد حرارتها، ثم كتم أنفاسه وضغط زناد الإرسال، ووضع أمامه التليفون مترقبًا ردًا لم يأته.
ـ لا يمكنها أن ترد في وقت الخدمة.
قال معزيًا نفسه، واستلقى على السرير ضاغطًا زر تشغيل التليفزيون. أخذ يتنقل بين القنوات بسرعة لم تدع لأحدهم أو إحداهن فرصة إكمال جملة. نظر إلى ساعته حاسبًا وقت انتهاء ورديتها والزمن اللازم للوصول إلى مهجعها. ضغط الرقم وأخذ يستمع إلى الرنين حتى انقطع متبوعًا بطنين الصمت، كرر المحاولة مرتين من دون جدوى.
أمضى ليلته متقلبًا بين مشاعر القلق والخجل والحيرة من تطفله ومن أسباب صمتها. هل سمعتها إحدى الوصيفات تملي عليه الرقم بالمخالفة لقواعد البرج التي تحرم الاتصال الشخصي بالطارئين؟ هل عاقبوها على رنين تليفونها المريب في النزل الجماعي بعد منتصف الليل، هل تجاهلته بسبب خفته التي لا تناسب مكانته كطارىء مميز؟
لم يتمكن النوم من جفونه إلا بعدما تسلل نور الصبح من تحت الستائر المسدلة. في الغداء لم يتخير طاولته إلا بعد أن مسح المطعم بعينيه واختار القسم الذي تخدم فيه مالو. ابتسم لها عندما اقتربت. حيته بحياد محبط، ومع ذلك همس إليها:
ـ كتبت إليك وهاتفتك ولم تردي.
ـ لا أحمل الهاتف دائمًا سيدي.
أجابت بكبرياء ملكة غير مجبرة على المجاملة أو تقديم المبررات. شددت قبضتها على صينية تحمل عليها طبقًا من الآيس كريم، وواصلت طريقها.
————————————————————————-
من “البحر خلف الستائر”.