الموناليزا..بين النقد والشعوذة

الموناليزا

 

باريس، سامحها الله هي صانعة أسطورة الموناليزا، وليس روما أو ميلانو؛ والأخيرة هي  مدينة ليوناردو التي وضع بنفسه مخططاً معمارياً لها لم يزل محترماً إلى اليوم، وهي تعرف قدره فناناً للعشاء الأخير وليس للموناليزا، وعالماً مبتكراً للعديد من المخترعات التي صارت إرثاً عالمياً، وبينها المقص، ومظلة القفز من الطائرات، وفكرة الطائرة الحوامةً!

في مدخل متحف اللوفر، توجد لافتات تشير إلى مكانين: الجناح المصري والموناليزا. ماذا لو عرف أجدادي أن القسم الضخم الذي يحتوي آثارهم يتساوى مع لوحة بحجم راحتي اليد؟!

مستنسخات من اللوحة  (فوتوكوبي بالأبيض والأسود) تتابع مع أسهم تشير إلى اتجاهات السير للوصول إلى الموناليزا. ورواد المتحف يلهثون على الدرج مثل حجيج يستعجلون الثواب فيختلط عليهم السبيل وتتوه العلامات، ويقف العشرات يسألون العشرات عن الطريق!

في النهاية، وببعض الصبر، يصل الآلاف يومياً إلى المعجزة، تقودهم اللافتات إلى باب الجناح، الذي يحمل عنوان (الفن الإيطالي) ولولا الاحترام  لما تبقى من رصانة المتحف لسمي جناح الموناليزا. الجناح متحف قائم بذاته، مذهل في حجمه وضخامة وعدد ما يضم من لوحات عصر النهضة الإيطالي.

على جانبي الجناح العملاق باتساع ممر كبير تحتشد مئات اللوحات بأحجام ضخمة، معارك حربية، أيقونات ، بورتريهات لملوك وملكات لا تنقصها الأصالة. لكن حجيج الموناليزا لايكادون يلقون نظرة على هذه اللوحات. حتى من يجبرهم التعب على نيل استراحة على المقاعد أمام إحداها فإنهم لايتأملونها، بل يجلسون بالقرب منها مثان تتهارش أو تثرثر، تعبث بالهاتف النقال أو تتحدث عن اقتراب تجلي الموناليزا، اهتداء بالزحام الذي يلوح في البعيد.

كل لوحات الجناح تبدو وصيفات للوحة الصغيرة التي يصلها زوارها بانعطافة جانبية إلى صالة خاصة، وكأنها المذبح أو قدس أقداس الجناح، تمتليء هي الأخرى باللوحات الكبيرة المهجورة، بينما تحظى الموناليزا بأكبر عدد من موظفي المتحف ينظمون المرور أمامها، مع حواجز وإشارات مرور توضح اتجاه السير، كما أنها الوحيدة في المتحف التي تستريح داخل فجوة بجدار يغطيها ساتر زجاجي!

كانت صدمة حقيقية، إذ لم أكن قد انتبهت إلى حجم اللوحة فيما قرأت عنها في السابق، اكتشفت أن المستنسخ المهدى إليّ هو في الحجم الأصلي للبورتريه (31×21)  بوصة. اللوحة الأصل لا تمتلك إشعاعاً إضافياً فوق ما يمتلكه مستنسخها. جربت أن أترك نفسي لضغط الطائفين من مختلف الأجناس، من القرب، ومن البعد، يميناً ويساراً.. لا شيء جديد في نظرتها أو ابتسامتها يعول عليه، الوجه المدبب يوحي باللؤم، أكثر مما يوحي بقداسة أو فسق.

تذكرت الأصابع، لماذا لم يقترب أحد منها بالتعليق؟

ليست من الأصابع التي يمكن أن نحبها، لاسلميات واضحة لها، مما جعلها تبدو دوداً أو حيّات مقطوعة الرأس.

السر ليس داخل البرواز، هذا مؤكد. ربما كان التناص بين الموناليزا وأيقونات العذراء، أحد أسباب أسطرة اللوحة، وليس لغز النظرة أو الابتسامة.  لكن نهر الأسطورة لايواصل جريانه اعتماداً على منبع واحد، بل يحتاج إلى جريان دائم لروافد الغموض، والموناليزا لاتنقصها الروافد التي تتزايد كل يوم حول صاحبة اللوحة، وعلاقتها بالصانع، هل هي عشيقة الفنان، فتاة ليل، زوجة صديقه تاجر الحرير؟ هل هي بورتريه ذاتي للفنان الشاذ جنسياً؟

هل علينا أن نلاحظ كيف يمكن أن تلبي اللوحة أشواق التجديف كونها لوحة لبغي أو لشاذ وتتناص مع أيقونات العذراء!

ألهذا تجمع الجيوكوندا في حجيجها بين المؤمنين والملحدين ممن تستعين إدارة المتحف عليهم بالحواجز وإشارات المرور والشرطيات العابسات؟!

لا أحد بين أولئك الحجيج المشرئبين باتجاه اللوحة يستطيع أن يرى شيئاً داخل البرواز، لأنه يقف وسط  الحشد بصورة اللوحة المستقرة في أعماقه.

هذا هو المقال، وأنتظر ردك، هل ترينني مبالغاً؟ هل استقبلت اللوحة بهذا الاستهتار، لأنني وقفت أمامها  بصورتك في أعماقي؟! لا أعرف، لكنني تمنيت بعمق  لو كنا نتخاصر الآن بحرية كغيرنا من العشاق هنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • من “كتاب الغواية”