أشياء تلمع في العتمة

لوحة: محمود سعيد
لوحة: محمود سعيد

صوته ينساب واهناً مبهماً بالغضب، وبين الحين و الحين ترتفع لهجة مداولاته مع نفسه: لا، لا؛ ذلك النهد الصلب المقتحم ليس للمرأة التي كانت تسكن في مواجهتي آنذاك.  ذلك كان لممرضة في مستشفى ما.  ماذا كانت المناسبة؟ هل دخلته بسبب الحمى؟ لا، أظن كان المغص الكلوي الذي لم يعاودني مرة أخرى.

نعم هو، وهذه الرائحة الخفيفة التي لا أكاد أشمها الآن هي نفسها الخليط الدبق للعرق والعطر والمطهر والمخدر التي أثارت معدتي.  كانت تنظفني من القيء الذي فاجأني، نـزعت عني قميصي و احتضنتن، وقد وضعت وركها خلف ظهري تحول بيني وبين التهاوي إلى السرير.  كان نهدها يضغط عليّ من فوق؛ نعم ‍‍‍‍‍‍هذا  هو الوضع الذي أتذكره لذاك  النهد المشاكس، الذي كان للذته طعم الألم المدوخ.

الآخر ظل يطل لسنوات مائلا من فتحة الصدر متطاولا كأرنب مشاكس أمسكوه من خلفيتيه.  كانت تقف في شرفة الرابع، وأنا أجلس في شرفة الثالث مستنداً إلى الحائط.  كم استغرق الأمر من الوقت لكي أقنعها بالمجيء؟

التفاصيل الثديان في تجاورهما الأليف. التي كانت حاضرة بكل قوتها تنقطع فجأة وتترك سؤاله معلقاً: كيف نـزلت وعبرت الشارع أمام الجميع؛ مسرعة ومرتبكة؟

نفخ الهواء بنفاد صبر: ما الذي يحدث اليوم؟  لم تكن هي التي جاءت، بل الأرملة التي تسكن الشقة المجاورة بلا شرفة.  الأخرى جبنت، أشارت أمام شفتها المكتنـزة إلى شارب ما ومررت كفها على رقبتها كنصل.

كان قد مضى على  ذلك التعارف الصامت عام؟ عامان؟ أكثر من عام ونصف على أية حال.  نحو ثلاثة أشهر من النظر المستطلع قبل أن أبدأ التلويح لها.  في البداية كانت تنسحب إلى الداخل، ثم صارت لا تغادر، إلى أن ردت بتلويحة  مرتبكة ذات يوم، وفي كل يوم كانت تخفف إبهام  التلويحة ؛  رافعة  اليد إلى مدى أبعد، وأخذت توسع من ابتسامتها، وفتحة صدرها، وتميل على إفريز الشرفة؛ حتى تجلى

ولكنها جبنت! والأرملة التي فوجئت بها تطرق الشقة قالت: جئت مكافأة لك على صبرك.  وفي الضوء الشحيح كنت أستطيع تمييز اختلاف اللون.  أتصور أن الآخر كان أكثر طراوة.  في ذلك الوقت كانت فكرتنا عن الفخامة والإشباع لاتزال تسكن اللحم الطري!

هه! ما هذا الخلط العجيب؟! يتذكر تماماً انتفاضته وهو يجرد الأرملة من ثيابها، ويشم عطر الياسمين الذي وصله يومها خفيفاً كصدى بعيد لآخر رجل تعطرت له، لكن ملمس القطيفة هذا الذي تصوره يخصها، هو في الحقيقة لثدي المرأة التي عاشرها خمسين عاماً! ملمس المرة الأولى الذي لم يتكرر ؛ الثدي الذي كان له كل هذا الدفء لاوجود له الآن؛ لا أثر سوى علامة: جلدة متهدلة؛ رداء ثدي رُفع قبل صاحبته إلى السماء.

تحسس زغب لحيته.  لم يعد الشعر غزيراً قاسياً كما كان.  ابتسم بأسى. وهبت نسمة خفيفة حملت الجارة الأرملة بعيداً، كيف كان ملمسها؟ ذهب أمام وحشية صوتها؛ الانفجار الذي محا اللمس والإبصار.

رذاذ غريب  على هذا الوقت من الصيف خالط الهواء حاملا معه رائحة الندى الذي تلمع قطراته على نهد في وضع رأسي جارح يزيح ما عداه إلى العتمة.  منذ متى يعاوده هذا النهد ملحاً؟  هل يبدأ الهوس بصلابة أعضاء المرأة عندما تبدأ أعضاء الرجل رحلتها المعاكسة؟

لا ناعم ولا خشن، لكن جلده المشدود كان محبباً مثل سطح ثمرة فراولة فتية، يعيق انـزلاق قطرات الندى التي علقت به.  قطرات شفافة تخايل العين بما تحتها من وهج،  بينما استقرت قطرة أكبر من المعتاد على قمة الحلمة؛ تاجاً من كريستال لأجمل قبة عرفها تاريخ العمارة.

كيف تنبعث  الذكرى من الصبا الباكر بهذا الحضور الكثيف؟  هل كان يدرك لحظتها أنه سيتذكر بكل هذه الوحشة ذاك المتعذر على الوصف؟!، لكن أي صباً هذا؟! ولماذا تبدو الأمور اليوم مختلطة إلى هذا الحد؟!

عبثاً تحرث أظافره جسده في محاولة لشحذ  ذاكرتها التى لاتحمل أي ذكرى لنهد  يقف ضالاً بلا جسد يؤويه، فقط مساحة صلبة من البطن بنفس البشرة التي لها لون القهوة بالحليب؛ لاأهمية لها في ذاتها ولكنها تأتي كخلفية تخدم الموضوع الأصلي للوحة: الكثيب الذي ينحدر برشاقة ليلتحم بأرضه. هذا النهد يبدو بلا حضور واقعي، وهذه الوحشة ليست إلا رغبة لم تتحقق فاحتفظت بحرارتها كل هذه السنين.

ربما كان لخلاسية في فيلم برتغالي؟ يووه! هذا النهد كان مطبوعاً على كارت بوستال جلبه صديق من اليونان؛ صورة حازت طرافتها من جنون مصورها الذي سعى لإثبات علاقة ما بين المرأة والأرض.  النهد الشامخ كان يتصدر اللقطة، والخلفية جبل يأخذ هو الآخر شكل النهد بمنارة صغيرة على قمته؛ حلمة الجبل التي لم تكن مجللة بالندى.

هذا هو الأمر إذاً؛ لم يأت الخلط إلا لأن نهد الصبا ذاك كان في ذات الوضع.  الكرم الأول الذي اعتصره كان لضيفة لا يتذكر الظروف التي نامت فيها عندهم.  يتذكر المخاطرة فيرتعد، كأنها تحدث للتو، والفتاة التي تململت قليلا، لم تفتح عينها، ولا يعرف إلى اليوم إن كانت أحست بيده أم لا، لأنها في صباح ذلك اليوم لم تبد تجاوباً أو نفوراً.  كان ثديهاً كبيراً لا يناسب عذراء، واليد الصغيرة التي  تهصره لا تستطيع أن تحيط به، فكان ينبجس من بين الأصابع التي قدر لها أن تكبر وتهصر نهداً صغيراً.

انتبه للمفارقة التي يتبينها لأول مرة: النهد الأول كبير لعذراء لم تصح والأخير مستدق لعذراء لم تنم؛ الوحيدة التي ظلت تعاوده بكل الوضوح كجسد كامل.   عندما التقطها في سيارته، دعاها إلى عشاء كما يليق بصياد محترف غزا الشيب مفرقه، و بعد العشاء أصرت بعناد ونـزق صبياني على أن يصحبها إلى صالة ديسكو، أعجبته اللعبة، وعندما خرجا في الثانية صباحاً وافقت على أن تبيت عنده بشرط ألا يمسسها، لأنها عذراء.

عارية تماماً، مستلقية علي ظهرها، تتأمل جسدها بأكثر مما يفعل هو، تمجد بيديها تموجاته، من الرقبة النحيلة صعوداً على الكثيبينن الصغيرين، لتنكسر الموجة على البطن المستدق  تتوسطه الدوامة الصغيرة للسرة، التي يبدأ بعدها زغب خفيف يتكاثف، كلما اتجهت يداها لأسفل؛مخفياً ما بين الفخذين النحيفين.  ولا يدري الآن من أين جاءه اليقين بأن النهدين الورديين كانا يبتسمان! سمحت ليديه أن تتبعا يديها مثل الجوقة وراء المغني، تمسك بها أحياناً لترشدها إلى الأماكن  التي ينبغي فيها التمهل، والأخرى التي تتطلب الإعادة، وتتأمل في نشوة انبهار عينيه، فإذا حاول الاستباق  ذكرته بالوعد الذي قطعه على نفسه وتابعت أسئلتها عن حياته.

كيف استسلم هكذا؟‍‍‍‍

كانت المرأة الوحيدة التي حصلت على عريه الكامل.  بدأ من الطفولة الباكرة صاعداً بالحكايات إلى أن بلغ لقاءهما في تلك الليلة وما فعلاه حتى وصلا إلى هذا السرير.  وكما لو انتبهت فجأة إلى عريها، غادرته مذعورة.

بعد ذلك لم يتعر أمام امرأة قط، وتفرغ لترتيب ذكرياته، وفي كل مرة كانت الذاكرة تخونه أكثر من سابقتها؛ بالنسيان والخلط.  لكنه اليوم يبدو مشوشاً أكثر من أي يوم مضى، والنهد الدقيق الباسم، الذي كان من المستحيل أن يلتبس عليه، تعرض كغيره للتشويش، و لم يعد يعرف إن كان للفتاة التي تعرى أمامها لآخر مرة، أم لتلك التي مرت أمامه منذ لحظات، أم هو لثالثة لا يذكرها؛ فازدادت تقلصات الألم في وجهه وأحس بالجو يعتم ويختنق فجأة وبثقل لا تحتمله أطرافه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • من مجموعة “مواقيت البهجة”.