إميل حبيبي.. الوجه والقناع

 

إميل حبيبيات أغسطس ملتهب رأيتني وجهًا لوجه مع الكاتب الذي أدهشني وأحزنني ذات يوم بمتشائله أبي النحس، ثم أثار استيائي بعد ذلك بتحوله إلى داعية مندفع لسلام غير ممكن مع الصهاينة. وقد ظل إميل حبيبي[1] ضيفا دائما على معرض القاهرة الدولي للكتاب حيث استقبل مرات من جمهور لا يدخل كثيرا في تعقيدات السياسة بوصفه ريحا طيبا من رياح فلسطين،  مثله مثل درويش وسميح القاسم،  وما أن بدأ في الحديث عن بطيختيه الشهيرتين اللتين يحاول إمساكهما بيد واحدة حتى انفض الجمهور من حوله.

لم أسع لرؤيته مطلقا في القاهرة على خلفية مواقفه السياسية.  ولم أكن سعيدا باللقاء الذي جاء مصادفة مربكة، وهذه إحدى إساءات السفر إلى الإنسان،  فبقدر ما يعطي الارتحال فرصة للاغتناء بالجديد، فإن المسافر نادرًا ما يستطيع أن يرعى عزلته في مكان الارتحال،  وخاصة إذا كان هذا المكان مؤتمرًا أومهرجانًا ثقافيًا.

كنا ضيوفًا على السيد محمد بنعيسى ( وزير الثقافة المغربي يومها،  الخارجية بعد ذلك ) في منزله بأصيلة، قرية ابن عيسى التي جلب إليها الشهرة منذ أسس مهرجانها الثقافي. وشأن كل حفل كبير العدد ينتهي الأمر بأن يتحول الناس إلى مجموعات صغيرة،  على هذا القدر أوذاك من الائتلاف.  كنا كذلك في تلك الليلة، وجاءت جلستي بين مجموعة بينها اميل حبيبي،  ونبيل سليمان الذي ذكر وقائع تلك الليلة في مكان ما من أحد كتبه.

ولأنه من النادر أن يجتمع عرب يتعاطون الكتابة دون أن يفتحوا نقاشًا حول القضية الفلسطينية، بدأنا حديثنا. وما أن قلت ملحوظة حول تنازلات أوسلو،  حتى اندفع اميل حبيبي: ارفعوا أيديكم عن فلسطين . .  خلاص . .  الصغير كبر وليس مطلوبا منكم أن تقرروا نيابة عنا!

وكانت “منكم” هذه تعني مصر، باعتباري مصريًا. وقلت له بهدوء،  أنا لست مصر لأقرر رفع يدي،  وأنت لست فلسطين لتطلب هذا الطلب،  لكنني أعتقد أن مصر التي قامت ثورتها بالأساس احتجاجًا على حصار جيشها في الفالوجا، وأعطت مائة ألف شهيد في حروب متعددة لا يمكن أن تكون قد فعلت هذا لمجرد فرض الوصاية.

وكان آخر ما يمكن أن أتوقعه هو أن أرى الكاتب الكبير بجرمه الضخم ينخرط في البكاء.  وانتابني إحساس ابن دفع أباه إلى لحظة ضعف ما كانت تنبغي له. إميل

في تلك الليلة أدركت المأزق الإنساني الذي يعيشه اميل حبيبي في تأرجحه بين حلم الأدب وواقعية السياسة،  بين التزامه الفلسطيني وبين آرائه السياسية التي بدت لنا يومها خرقاء، ولم يزدها الزمن والأحداث إلا غرابة!

ولم يعد اميل في تلك اللحظة بالنسبة لي الكاتب الذي يريد أن يمرر أفكارًا ضد ما نعتقد، بل صار أبًا يرى أولاده خطأه جليا،  بينما يتمسك هوبأنه المحق لأنه الأب!

ومرة أخرى دون إصرار كبير على الصحبة عدنا معا إلى القاهرة،  متجاورين نحو خمس ساعات متحاشين الحديث في السياسة لأكتشف في الرجل ظرفًا جميلاً وقدرة على صنع النكتة وروايتها.

كنا في الدرجة الأولى بالطائرة، بينما لم يجد نبيل سليمان وجمال باروت إلا  الدرجة السياحية، لأنهما بدلا رحلتهما. كان لدينا ما لم يكن عندهما من الأكل والمشروبات الفاخرة؛ فكان كلما استقرت الطائرة في السماء يهيء كأسين و يأخذني من يدي.

ـ تعالى نطمن على ولادنا في بولاق الدكرور!

اكتشفت أنه يعرف التقسيمات الطبقية في أحياء القاهرة معرفة المعايش بالنكتة. وكانت القاهرة محطة توقف إجبارية لثلاثتهم؛ إذ لا يوجد طيران مباشر من الدار البيضاء إلى فلسطين أو سورية!

والغريب أن اميل حبيبي ارتد بعد هذه الصحبة الأليفة إلى موقعه السابق في نفسي: موقع الكاتب المرتبك والمربك في آن فلم أسع إلى لقائه مرة أخرى، لكنني رأيته نائمًا. كان وحيدًا ناعسًا في مقهى معرض الكتاب. هربت قبل أن يفتح عينيه ليراني؛ فلا أعرف هل أصافحه على ذمة الرصيد الإنساني الذي ولد ذات رحلة، أم أتجاهله لأنني لا أسوغ دوره الخطير في تمرير فكرة وجود الإسرائيلي الطيب الذي يمكن أن يتعايش معنا؟

لم يرني في تلك المرة، ولم أره قط بعد ذلك.

[1] رحل إميل حبيبي في الأول من مايو 1996.

 

02Gold and Glass Cover

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*إميل حبيبي 28 يناير 1962 – 2 مايو 1996

  • البورترية من كتابي “ذهب وزجاج”