شبه دولة الصمت المأمولة

لا يمكن وصف أزمة نقابة الصحفيين والداخلية إلا بالمخيفة.

ولن أخوض في صواب موقف النقيب والمجلس اللذين يمثلان جموع الصحفيين وقد فعلوا ما يجب أن يفعلوه ردًا على واقعة اقتحام الداخلية للنقابة، ولا في صواب موقف مجلس تحرير «المصري اليوم» التي برزت كمتهم ثان برئاسة الزميل محمد السيد صالح، وقد صرت بعد موقفه أكثر اعتزازًا بالجريدة التي وفرت لي نافذة أطل منها أسبوعيًا منذ سنوات وأنا لست من محرريها، ولن أتحدث عن مفهوم الحياد الصحفي الذي لا يعني أبدًا ألا يكون للجريدة رأي في واقعة عدوان سافر على الحرية.

لن أتحدث عن كل ذلك، لأن الحديث عن الطرف الصحفي في الأزمة يستثير أعصاب المواطنين الشرفاء مثلما تستثير الراية الحمراء ثور المصارعة. لن أتحدث عن ضرورة الحرية للصحافة لأنه حديث رغم وضوحه يفتح بابًا للغوغائية التي تتهم الصحفيين بأنهم يريدون أن يكونوا فوق القانون!

يمكننا كصحفيين أن نتجرع حصتنا من الإهانة، التي يستشعرها كل مصري يعرف الحجم الحقيقي لبلده ويعرف ما يليق وما لا يليق بهذا البلد. ويمكن لمصر أن تستغني عن «المصري اليوم» دون أن تموت، لكن هذه الدولة التي عرفت المدنية ومعنى الدولة قبل أن يشرق الصباح على تسعة أعشار الكوكب هي التي تتأذى وتتحول إلى شبه دولة عندما يضل العدل والعقل طريقهما إلى السلطة التي تحكمها.
وقد ضل العدل والعقل طريقهما في معالجة السلطة لهذه الأزمة، مثلما يضل في كل الأزمات والوقائع المشابهة، التي تنحدر بنا سريعًا من دولة عرفت القانون والنظام منذ فجر التاريخ إلى شبه دولة ككل أشباه الدول المحيطة بها، حيث لا قانون ولا صحافة ولا نقابة ولا برلمان.

كان بوسع الداخلية أن تتخذ الإجراءات القانونية التي تضمن تسليم زميلين مطلوبين للتحقيق، لكنها فضلت أن تدوس القانون. اقتحمت النقابة، وحاصرتها كأي سلطة في شبه دولة، ليس فقط بالقوات، بل بالبلطجية وهو أمر تستنكفه بعض أشباه الدول. أجبرت الداخلية الصحفيين الذين تنادوا إلى نقابتهم على المرور بين هؤلاء البلطجية والتعرض للإهانات منهم، بل وإبراز بطاقات عضوية النقابة للمفتشين البلطجية الذين يقسمون وقتهم بين سب الصحفيات ومديح رئيس الدولة!

كل الأسلحة كانت مقبولة، من استهداف النقيب يحيى قلاش بشخصه واستهداف النقابة، إلى استهداف «المصري اليوم» بسبب موقفها القوي من الأزمة، وبينما كانت الداخلية تطبق ممارسات أشباه الدول وتصرفات ما قبل الدول كان الرئيس ينعي إلى المصريين خبر تحول مصر من دولة إلى شبه دولة!

كانت الداخلية تفعل ولا تتكلم، تحتفظ لنفسها بحق الخطأ، وحق التعدي، وتلوذ بالصمت، لتدفع النقابة والصحافة جميعًا إلى الصمت وهو العلامة الفارقة التي تُميز أشباه الدول عن الدول التي تتقدم بقوة الكلام، وتواجه الإرهاب والأعداء على الحدود بقوة الكلام، أي بقوة الحرية.

في الدول الحقيقية قد تتجاوز الشرطة بحق هيئة أو فرد، لأن الشرطة لديها القوة والعدوان من طبائع القوة، وفي هذه الحالة يتصرف رئيس الدولة بحسم ويأمر الشرطة بالعودة عن الخطأ، يأمر بعقاب المخطيء، ويقدم للمعتدى عليه الترضية المناسبة، لكن في شبه الدولة ينتظر الرئيس ما يقرب من الأسبوعين حتى يخاطب الطرفين في تصريح عام لا يشير فيه إلى الأزمة بشكل واضح، ولا يرتب مسئولية على أحد، فقط ينصح بلم الشمل كيفما اتفق؛ فالمهم هو العودة إلى فريضة الصمت!

___________________________________

نشر في المصري اليوم