إن لم يكن هذا هو الجنون؛ فصفيه لي؟
رسالتك جعلتني أنتفض. هل ألقيت على وجهك قميصي المتعرق؛ فرأيتني من على بعد ألف ميل؟
رسالتك التليفونية الحاسمة أذهلتني: “تبدو في الشرفة الآن، تقرأ”
كنت في الشرفة فعلاً كما أخبرتك في ردي العاجل، مع كتاب أونجاريتي. أقرأ سطراً، وأراقب هدهدات مطر ربيعي مفاجيء لغصون الجهنمية الممدودة عبر خلل السياج، كأذرع شحاذ تساقطت أصابعها في الشتاء، بينما تصر على البقاء، تتسول شعاعاً.
وكان رذاذ مشاغب يتخطى حدود الشارع؛ فلينعش وجهي وينعش الذكريات التي استعادت بعضاً من حيويتها بمطر لايشبه إلا ذكرى أمطار طفولتي، أبحلق في المدى لحظة وأسرح مع أونجاريتي:” ضاعت مني\ كل أشياء الطفولة\ ولن أستطيع بعد الآن\ أن أمحو ذاكرتي\ بصرخة”.1
هل رأيت المطر أيضاً؟! تقولين إنك لم تريه. على الأرجح لم يكن بدأ عندما حررت رسالتك. وربما تكون الرسالة هي التي هيّجت في طريقها الريح، فساقت المطر إلى شرفتي. وربما لم تكن تمطر، لكنني كنت أحلم بالمطر في مدينة أدمنت الغبار.
لم تكوني بالشرفة، لكنك كنت تنظرين من خلف زجاج الشباك، وترين عري السماء الذي هيج السحابة فأمطرت عندي.
فكرت برسائلك التي أشعلت الأثير، في رحلتها قافزة من شرفة إلى شرفة، كهارب من حريق. طوت جبال الجليد وبحار الخضرة والماء والرمل، قبل أن تصل إلى غابة أخرى من الأسمنت، فتعود إلى التقافز من شرفة إلى شرفة لتحط على شرفتي بالذات، وتنعظ أصابعي برسائل أخذت تتقافز باتجاهك.
البيت الأول، لا الحب الأول هو ما يستحيل تعويضه. كنا نتصور أن الفتيات اللائي يتعثرن في مرايلهن سوف لايمحو الزمان ارتعاشات الفرح بحفيفهن، لكن الارتعاشة الأولى وارتباك الصمت وعذوبة الحيرة وانعدام اليقين كلها أشياء تعود إلي في صحبتك.
عطايا الحب الحلوة تأتي في موعدها كأمطار الشتاء، وأحياناً بغتة كأمطار الصيف. أنت مطر الصيف العزيز.
لم أخبرك لمَ كنتُ أتأمل بألم أبيات أونجاريتي القصيرة.
لأنني حلمت بك في البيت القديم. وأثار الحلم مشاعري؛ لا أنت هنا ولا البيت عاد هنالك منذ عقود. ابتعدت رائحة الحليب الفائر بدفء الضرع، والمجمرة الشتوية التي تتلظى في لهيبها عصارة الخشب، والقمر المطل من صحن البيت المكشوف.
كنت أراقب في الحلم ـ وأنت لصقي أمام المجمرة ـ جذوة الحياة في قطرة الماء الأخيرة تبقبق هاربة من النار المستعرة بقلب الغصن إلى طرفيه، وتستنجد بعزم ما فيها من رائحة، لكن الأطراف لا تلبث أن تشتعل هي الأخرى من تلقاء ذاتها؛ فتتبدد آخر العصارة، ويمكن في طشطشتها الأخيرة تمييز صرخة السنط من صرخات التوت والكافور والصفصاف.
البيت هزمه الزمان وإن لم يهجر مكانه. الطوب المحروق وقف فظاً مكان الطوب اللبِن المضطجع في لين.
صار الإسمنت مكان الطمي. والأرض المرشوشة بنسائم الصابون حلت محلها لمعة السيراميك. والمجمرة صارت دفاية زيت. المصادفة وحدها أبقت على جزء من البيت القديم، تكدست فيه أرواح الغابرين والغابرات من الأعمام والعمات. وكان هذا الجزء المهمل في الصحو يتمدد في الليل فتنمو الأجزاء المهدومة، ويستعيد البيت القديم اكتماله في أحلامي.
وعلى الرغم من أن عشرتي مع البيت الجديد فاقت العمر الذي عشته في بيت الأرواح، فإن أحلامي تتأبى على البيت الجديد. لم تدخله، ولا حتى من باب الاستطلاع.
حملتك في حلمي إلى البيت الذي لن ترينه أبداً. وفي الصباح أفقت على مكالمة، يخبرني فيها أخي أنهم بصدد هدم الجزء المتبقي من البيت القديم. أي أن آخر غرف بيت الأحلام ستتهاوى عما قريب، ولا أعرف إلى أين سآخذك في أحلامي القادمة.
أرجوك، تأملي البيت جيداً، عندما تدخلينه في حلم قادم، حتى إذا شاخت ذاكرة أحلامي، أستطيع أن أزوره في أحلامك.
1 أونجاريتي، الأعمال الكاملة، ترجمة عادل السيوي، ميريت.
—————————–
*من كتاب الغواية