“الوطن” من معنى نبيل إلى كلمة سيئة السمعة

الاستعمار الوطني،  أصاب  كلمة " بالتشوش"وطن
الاستحمار الوطني، أصاب كلمة ” بالتشوش”وطن

بداية يعتذر مجنون الزفت عن استخدام هذه الكلمة ” الوطن ” التي تحولت عبر الابتذال اليومي إلى كلمة يستوجب ذكرها الاعتذار !

ليس عدميا،  ووطنه بالنسبة له هو الوطن بالنسبة لكل خلق الله ” لوشغل بالخلد عنه نازعته إليه في الخلد نفسه “، ولكن الألفاظ مثل البشر  تكتسب سمعتها عبر المواقف، والأماكن التي ترتضي لنفسها التواجد فيها.

وقد أهينت كلمة ” الوطن ” من كثرة تواجدها في الأماكن المشبوهة من  خطب الطغاة  ومقالات الخدم والمخبرين على مدى نصف قرن من السياسة والثقافة، لم ننجز فيها سوى خيبة الأمل فلا أوطان بنينا ولا  للكلمة تركنا وقارها الحزين.

 

” الوطن ” بالنسبة لنا من أكثر الكلمات حزنا ؛ لأننا  من أكثر  سكان الأرض بؤسا، فالوطن الذي يعني للإنجليزي   “home” بكل ما يوحي البيت من ألفة وسكينة  وأمان لم يوح  يوما لنا بأي من هذه المعاني . ولدت الكلمة في ظل احتلال أجنبي ، فكان الوطن  بالنسبة للوطنيين يعني باختصار: حزن الغربة في بيت يحدد لهم  الغريب كيف ومتى يتحركون فيه، ثم كان حلم التحرر الذي أنعش الآمال في المساواة بين الـ ” وطن ” العربي والـ “ home” الإنجليزي، بعد أن رحل الغريب وصار سكان الوطن من لحم ودم واحد ؛ حكاما ومحكومين. ولكن الفرحة لم تتم واكتشفنا أن رابطة السلطة أقوى من رابطة الدم !

 ، الرسوم لمصطفى بيه مختار الوطن كان "هوم" أيام الاستعمار الأجنبي
الوطن كان “هوم” أيام الاستعمار الأجنبي

الحاكم حاكم، بل إن الأجنبي الذي كانت تحكمه في علاقته بالمناضلين ضده مواثيق دولية وتربص منافسيه من المستعمرين الآخرين كان مضطرا إلى الوقوف بعنفه عند حد معين، بينما الحاكم الوطني مطلق اليد في رعاياه، الأمر الذي علم الشيطان أن يقول نعم.

وإلى جوار هذه الـ ” نعم ”  البذيئة أو منها تولدت “لا ” مدلسة  وأكثر بذاءة من الـ ” نعم ” التي تتفوق بفضيلة الوضوح على الأقل .

 

” لا ” الجديدة التي ولدت مع جيل تشكل وعيه في جحيم السجون ” الوطنية ” فضفاضة ولعوب تلعب في المناطق الآمنة، وتحارب الشرور التي لا يختلف عليها اثنان، والشرور كثيرة وتلك  ميزة أننا نعيش على الأرض وليس في الجنة. ويكفي أن توجد انجلترا رمز الاستعمار القديم، وقد ورثتها أمريكا بدون أي فترة فراغ استعماري وهناك الدولة العبرية صنيعة الاستعمارين.

وقد أدركت الحكمة الشعبية الملعوب الذي تلعبه هذه الـ” لا ” فكانت النكتة عن الحوار بين مواطن أمريكي وآخر عربي. قال الأمريكي : نحن نعيش في بلد ديمقراطي بدليل أنك تستطيع أن تقف في أي شارع وتشتم بأعلى صوتك الرئيس الأمريكي، ورد العربي بتلقائية : وعندنا أيضا تستطيع أن تقف في أي شارع وتشتم الرئيس الأمريكي بأعلى صوتك .

هذه النكتة القديمة تكاد تكون عامة في كل الدول العربية وربما تكون هى التي نبهت  الـ ” لا “اللعوب إلى عدم قصر نشاطها على ” هناك ” ومحاولة خلق مجالات عمل ” هنا “، وسرعان ما اكتشفت أن هنا صغار مسئولين لن يغضب النظام إذا زينا صحفنا وجملنا  وجهه بانتقادهم، وهناك أواسط المسئولين الذين سيحتاج النظام يوما إلى حرقهم، وسنتلقى الإشارة بالهجوم في الوقت المناسب.

 ومن هذه التقسيمة الخبيثة في تلقائيتها، وجد البسطاء في الوعي والمصالح أنفسهم  في معسكر الـ ” نعم ” الآمنة، أوبمعنى أصح الأكثر أمانا ( ربما تغير النظام فجأة ليجدوا أنفسهم غير مرغوب فيهم ) ، بينما رأى  أصحاب الوعي المركب وعشاق الخطر المحسوب أن الـ ” لا ” هي الأكثر قيمة لدى الحاكم والمحكوم.

ورغم الخلاف بين من قالوا لا ومن قالوا نعم فإنهم اتفقوا جميعا على الإسراف في استخدام كلمة ” الوطن ” ؛ ربما كنوع من البحث عن  التوازن النفسي بالاحتماء وراء الكلمة النبيلة هذه.  اللاعبون في الأمان يرون أن كل قرارات الحاكم هي من أجل الوطن فيؤيدونه، وهواة ركوب الخطر  لديهم كل يوم الجديد مما  تفعله أمريكا أوإسرائيل  (هذه التركيبة الغريبة من  شيطان وأنثى ومغتصب ) وهو بالضرورة ضد الوطن فيشجبوه. ولديهم أيضا  رؤساء أحياء يغيرون مواقع سلال القمامة في الشوارع، ويتركون أشجارا دون تهذيب، أو يجيرون عليها بالتقليم، وكلها أشياء ضد الوطن وتستوجب الاستنكار، بل إننا سنرى  أحيانا مقالات مفاجئة ضد وزير قوي تضمن لكاتبها صورة البطل في الضمير العام المغرر به، بينما لا توجد في الأمر أية بطولة إذا ما عرفنا أن الهجوم على هذا القوي كان لصالح آخر يمتلك حصة أكبر  في ” الوطن “.