على الرغم من الأثر الكبير الذي تركه الأمريكي إرنست هيمنجواي على العديد من الكتاب حول العالم بأسلوبه البسيط المشرق غير المتصنع، فقد كان التأثير في حياة الأمريكيين من نصيب مجايله الأقل شهرة فـ س فيتزجرالد، الذي تحولت روايته “جاتسبي العظيم” إلى أمثولة للحلم الأمريكي وهجائية عميقة للرأسمالية، لكنها لا تخلو من إعجاب يستشعره شانئها في نفسه فيزداد غضبًا وبلبلة!
تقدم الرواية حياة البذخ في عقد مجد الرأسمالية الأمريكية (1918 – 1928) من خلال الحياة القصيرة الحزينة للمليونير الصاعد من القاع جاي جاتسبي الذي أثرى من تجارة التهريب، وعاش صاخبًا مشتاقًا ومات وحيدًا.
اخترع المليونير لنفسه ماضيًا أرستقراطيًا، وبنى قصرًا أسطوريًا على الجهة الغربية من بحيرة لونج آيلاند (حي الأغنياء الجدد) في مواجهة الحي الأرستقراطي في الجهة الأخرى من البحيرة حيث تسكن حبيبته دايزي التي لم يتمكن من الزواج منها بسبب فقره. وعاش يقيم السهرات الباذخة في قصره، على أمل أن تسمع بها وتأتي يومًا، وبينما يصطخب القصر بالغرباء ينعزل هو ليرقب – عبر البحيرة – الضوء الأزرق الخافت لفنار يخفق من جهة بيت الحبيبة، وعندما يتمكن أخيرًا من ترتيب لقاء معها ويستأنفان علاقتهما تنتهي العلاقة والحياة بجلسة أصدقاء يتواجه فيها أضلاع مثلث العشق (جاتسبي ودايزي وزوجها).
في طريق العودة بسيارته بعد المواجهة مع زوجها يترك جاتسبي عجلة القيادة لدايزي التي تصدم سيدة غاضبة أخرى تقطع الطريق هاربة من زوجها. ولم تكن القتيلة سوى عشيقة زوج دايزي الذي سيحرض زوجها على الانتقام من جاتسبي، ولا ينفي جاتسبي التهمة عن نفسه، فيأتي زوج القتيلة ويرديه قتيلاً في بركة سباحة قصره، بينما كان ينتظر مجيء دايزي لتهرب معه ويبدآ حياتهما في مكان آخر.
هكذا توصل الزوجان الأرستقراطيان إلى ترميم علاقتهما بجريمة قتل طرفاها الطرفان الأضعف في العلاقتين. طلقة من مسدس فقير حالي تنهي حياة فقير سابق، بينما يرتب الزوجان رحلة استجمام دون أن يهتم الزوج بعشيقته القتيلة أو تهتم الزوجة بعشيقها المغدور. هذا هو الكذب الأرستقراطي المستمتع بالثروة وبحياة الفقراء.
وطبقًا لسيرة الكاتب فدايزي، هي معادل زيلده، زوجته ومصدر آلامه وإبداعه، نموذج المرأة الكاذبة، العصية على الامتلاك، الفاقدة لملكة الإخلاص. وجاتسبي هو نصف فيتزجرالد المتطلع إلى الحياة الأرستقراطية، بينما أودع الكاتب نصفه الآخر في شخصية نك كاراويه ابن عم دايزي وجار جاتسبي في ذات الوقت، وهذا النصف نفسه مقسوم إلى ثلاثة: تمني بذخ الأغنياء، الإعجاب بصدق الفقراء ، والتحلي بكبرياء الأرستقراطية.
وقد مات فيتزجرالد عام 1940 معتقدًا بأن عمله الصغير والحساس لم ينل ما يستحقه، لكن الرواية بدأت حياتها بمعزل عن صاحبها، ومع الوقت ترسخت مكانتها وصارت الرواية الأشهر في الأدب الأمريكي بعد موبي ديك والعجوز والبحر، وبينما يتسع موضوع روايتي هرمان ملفيل وهيمنغواي لأمثولة إنسانية عامة( عبث الوجود الدون كيخوتي) جذرت رواية “جاتسبي العظيم” أمثولتها في الأرض الأمريكية، لهذا لن تعدم الرواية من يعيد إنتاجها سينمائيًا كل بضعة أعوام أو بضعة عقود، ليبقى هذا النص الروائي حيًا وقابلا للنمو.
السينما أيضًا تستفيد من تكرار إخراج الرواية؛ فالفيلم الجديد فرصة للمشاهد لاستعادة ما رآه سابقًا، بما يعني استعادة زمنه هو؛ فإن لم يستعد حقبة بكاملها، يستعيد على الأقل رفقة المشوار إلى السينما، لأننا نادرًا ما نذهب إلي السينما فرادى، وحتى من يتحامق ويفعل ذلك لا تحرمه الحفلة من خفقة عابرة مصدرها الشاشة أو مقعد قريب.
وقد وقعت السينما في غواية الرواية خمس مرات حتى الآن، في سلسلة بدأت بفيلم صامت عام 1926 أي بعد عام واحد من نشرها ، ثم 1946، ثم 1974 و200 وأخيرًا 2013 فيلم باز لورمان مخرج الاستعراضات الباذخة. وفي الأفلام الخمسة لم تتخل السينما عن عنوان الرواية الأصلي الذي لا ينفصل عن الرواية الملتبسة بروح الإعجاب والسخرية؛ فجاتسبي عظيم حقيقة لأنه ضحى من أجل حبه، وهو عظيم حقيقة بما حقق من ثروة ومكانة، لكن وحدته وهشاشته وحرمانه ونهايته العبثية كلها وجوه للسخرية من العظمة.
وإذا كان هناك إجماع على فيلم 1974 الذي أخرجه جاك كلايتون وأدى دوري البطولة فيه روبرت ريدفورد ومايا فارو هو الأفضل بين الأربعة السابقة، فإنه يمكن القول باطمئنان أن الفيلم الجديد الذي عقدت بطولته لليوناردو دي كابريو في دور جاتسبي وتوبي ماجواير في دور دايزي بوكنان، لا يقل إمتاعًا عن فيلم السبعينيات.
يحتفظ الفيلمان – إلى جانب عنوان الرواية – بمعظم المشاهد بترتيبها، وبتطابق شبه حرفي في جمل الحوار اللامعة المنقولة بدورها من الرواية، باستثناء المبالغات الكمية لدى باز لورمان التي تتماشى مع أسلوبه، وربما تتماشى أكثر مع توحش الرأسمالية التي صارت اليوم بلا منافس، بعكس ما كانت عليه عام 1974.
حجم السهرات، بذخ الستائر، قوة الرياح والمطر، القمصان الداخلية التي عاش جاتسبي يراكمها من أجل دايزي، كميات الورد التي استقبلها بها للمرة الأولى، كلها ثيمات ومشاهد تتطابق في الفيلمين بفارق كمي يشبه الفارق بين البشري والإلهي.
في فيلم كلايتون يبدو جاتسبي دنيويًا فانيًا بقليل من الغموض، بينما أخفاه باز لورمان في الفيلم الجديد طويلاً، حتى تضخمت حيرة الصاخبين في قصره ، وتعاظم الشك في وجوده من الأساس. وبينما يختتم الفيلم بمشهد ذروة (مصرع جاتسبي) يجد مخرج السبعينيات ما يكفي من الجرأة والشاعرية لكي يستمر بالتصوير بعد هذه الذروة، فيرينا والد جاتسبي البسيط الفقير، الذي يدخل قصر ابنه الميت للمرة الأولى فتصرفه دهشة البذخ عن حسرة الفقد، ثم يمضي بالجثمان إلى الجنوب مع نك، الصديق الوحيد الذي خرج به جاتسبي من كل هذا الصخب.
ولا يمكن الانحياز لأداء أي من فريقي الفيلمين، لكن الفيلم الجديد يعاني من صورة دي كابريو العالقة من رومانسية أدائه في تيتانك، حتى ليبدو في الفلمين ضربًا من عبدالحليم حافظ أمريكي يغطي اسمه على شخصية الفيلم، خصوصًا وأنه – للمصادفة – ضحية الفروق الطبقية في الفيلمين لكن الرأسمالية لم تتوان في السخرية من هجائية فيتزجرالد، وحولت الفيلم الجديد إلى مناسبة للاستهلاك بتسويق موديلات فساتين ومجوهرات الفيلم.
في الرأسمالية كل شيء قابل للاستثمار حتى الغضب، وهذا مصدر عظمتها وانحطاطها.