كان مواطنا عاديا، وإن شئت قل : أكثر قليلا من العادي ؛ فقد كان يحرص على الذهاب إلى السينما بشكل منتظم.كما كان يتردد على المسرح ومعارض الفن التشكيلي وندوات الأدب كلما تيسر له ذلك، قبل أن يصاب بجنون الأرصفة أو جنون الزفت طبقا للاصطلاح الذي نحته محام فطن!
كانت البداية عندما استيقظ من كابوس رأى فيه رأسه فوق سندان حدّاد يتطاير منها الشرر تحت ضربات مطرقة ضخمة. ولم يكن ما رآه إلا صدى لأصوات جرّافة تحت شباكه وقد أخذت تجرف الرصيف، الذي كان سليما بالأمس.
وخرج من تشوش المنام إلى تشوش الصحو، حيث تداخلت صورة الجرافة ومسئول الحي وسط عماله الأشداء بالفئوس والبُلط في أيديهم مع صورة المصفحة والضابط مع جنوده المعلوفين جيدا في رأس المواطن الذي لم يكن قد استيقظ تماما،فأعاد إغلاق شباكه وتأكد من إسدال جميع الستائر، ونزع وصلات الكهرباء عن الثلاجة والتليفزيون والراديو وكل جهاز يمكن أن يصدر أية ضوضاء تكشف عن وجود أحياء بالبيت. واستمر على هذا الوضع لمدة أسبوع نفد فيه مخزونه من الطعام ولكنه خرج إلى الشارع بعد أن اطمأن إلى مغادرة الحفارين دون أن يطرقوا عليه الباب ليخبروه بأمر اعتقاله!
كان سعيدا وهو يقفز بمشترياته على الرصيف الجديد أو الذي عاد جديدا حيث لم يكن قد مر على رصفه السابق سوى شهر واحد. ولكنه لم يستمتع بالأمان في نومه والسير اللطيف في يقظته على الرصيف الجديد سوى أسبوع واحد حيث عادت المعدات سريعا وعاد المواطن إلى سجنه في بيته لمدة مماثلة دون أن يطرق عليه أحد الباب ليسلمه أمر اعتقال.
ومرة إثر مرة اكتشف الرجل أن مسئول الحي هو ذاته الضابط الذي كان شابا عندما اقتحم عليه منزله وأمر الجنود ببعثرة كتبه وأشياءه الحميمة قبل أن يرغمه على ركوب المصفحة التي حملته إلى مكان مجهول غاب فيه سنوات.واعتبر أن ما يفعله مسئول الحي ليس إلا أمرا جديدا باعتقاله ولكنه مستتر بما يتناسب وطبيعة العصر الذي صارت فيه السجون فجة ومكشوفة ومدانة من قبل منظمات حقوق الإنسان.
وقرر أن سكوته على ما يجري للرصيف المتاخم لبيته معناه أنه رضخ لأمر اعتقاله المموه. ومستدعيا بعض خبراته القديمة التي تعلمها في تنظيمه بشأن التعامل مع ضباط الشرطة ومحاضر التحقيق قرر هزيمة خوفه والنزول مباشرة إلى الشارع ليسأل الموظف الكبير إن كان معه أمر اعتقال..عفوا : أمر حفر !
الموظف الكبير المندهش أبرز بكل هدوء أمر الشغل وخط سير حملته، مؤكدا أنه لا يستطيع تنفيذ هذه الأعمال من تلقاء ذاته.
لم يندهش المواطن ( الأكثر قليلا من عادي ) لثبات الموظف / الضابط الكبير ولا مبالاته، ولكنه اندهش من أنه لم يلاحظ أن
تجريف الشارع السليم وتكسير بلاط أرصفته وإعادته مرة أخرى أمر لا يقتصر على شارعه فقط، وإنما يشمل كل الشوارع السليمة تقريبا رغم وجود العديد من الشوارع الأخرى غير الممهدة فأصبحت مراقبة تجريف القار الناشف واستبداله بالقار الطري دون داع هوسه الخاص وقضية نضاله الجديد، فصار يحمل مفكرة دائمة تحت إبطه يدون فيها تاريخ التكسير وتاريخ إعادة الإنشاء، ثم التكسير الجديد في كل شارع يمر به.
وبعد فترة طور أداءه أكثر بكاميرا فوتوغرافية استبدلها بعد ذلك بكاميرا فيديو أدخلته في مشكلة قانونية عويصة عندما اتهمه الموظفون الكبار بجمع المعلومات عن الشوارع بهدف توظيفها في التخابر مع الأعداء.
ولم ينقذه من هذه الورطة سوى محام ضليع من جمعية المساعدة القانونية بأحد مراكز حقوق الإنسان الجديدة الذي استطاع أن يثبت أن “مجنون الزفت ” مجرد مواطن مريض يعاني من نوع جديد من “الفوبيا” التي يثيرها القار أو”الزفت” المستخدم في رصف الشوارع، مطالبا الدولة بعلاج المواطن، بدلا من تلفيق الاتهام بالعمل لصالح العدو، رغم أن النظام لا يعترف بوجود عدو أصلا!
بعد البراءة صارت قضيته مشهورة. ومحميا بهذه الشهرة قرر تجربة الهجوم بدلا من الدفاع؛ فلجأ بمعلوماته ووثائقه إلى رئيس الجهاز الرقابي في البلاد، الذي استقبله بلطف وإشفاق بالغين ونصحه بمواصلة جهوده المخلصة في التأريخ للمرحلة “الزفت”.
وأصبح من المعتاد أن يرى الناس “مجنون الزفت ” وهو يدون شيئا في مفكرة صغيرة أو يصوب الكاميرا اليابانية باتجاه أكوام الرمل وأكياس الأسمنت في الطريق.وأصبح مشهدا مألوفا أن يرى سكان منصة ندوة عن الأزمة الفلسطينية رجلا يقطع القاعة باتجاههم ويفرد كرسي البحر الذي بيده ليجلس بينهم ويأخذ الكلمة ليحدثهم عن تجريف الشوارع، فإذا حاول سكان المنصة أو أحد من الجمهور إسكاته لأنه يتحدث خارج موضوع الندوة قرأ لهم مواصفات الجرافات العاملة في شوارع مدينته مؤكدا على أنها من نفس النوع الذي يجرف زيتون وبيوت فلسطين، وأن التبديد الذي يحدث هنا هو الذي يذهب وقودا لجرافات هناك.
ولا تكون دهشة سكان منصة ندوة عن “تحسين أحوال السجون ” بأقل من دهشة سكان منصة الندوة الأخرى، عندما يعيد مجنون الزفت تشغيل أفلامه التي صورها للشوارع وقد نبتت أعواد الحديد الفظة لتفصل بين أرصفة رثة منجزة لتوها، وصور المتبولين في الشوارع التي لا تشبه سوى صور ذاكرته عن التبول في الزنازين الصغيرة؛ مؤكدا أن سكان منصة الندوة ليسوا سوى مجموعة من العملاء للنظام أو الجهلاء على أحسن تقدير عندما يتبنون فكرة عتيقة وبالية عن فاقدي الحرية خلف أسوار عدد محدود من البنايات التي تحمل وحدها اسم “معتقل” بينما المدينة بكاملها صارت سجنا كبيرا، فيه الأسوار ورائحة البول والوحشة غير المحدودة.
ويصبح مجنون الزفت مقنعا أكثر عندما يقارن بين أزيز المثقاب الذي يفتت بلاط الشارع ورائحة الشياط التي تصدر عنه مع رائحة الشياط التي تصدر عن الصعق بالكهرباء للمساجين أوالعلاج بالصدمات الكهربائية للمعارضين الذين كانوا ينزلون ضيوفا على مستشفيات الأمراض العصبية.
مؤخرا أسس مجنون الزفت جمعية شعارها “تثبيت الأرصفة وتغيير المسئولين ” ويزعم أن الفارق بين صلافة أداء المسئولين الإسرائيليين والأمريكيين وانكسار أداء مسئولي بلاده لا يعود إلى تفوق الأعداء في القوة البدنية، ولا في الثروة ( يزعم أن أرصدة مسئولينا أكبر بما لا يقارن ) ولا لأي سبب آخر، سوى أنهم هناك يغيرون الزعماء قبل أن يصيبهم العطب ونحن هنا نغير الأرصفة!