ليس في الإدراك أي نبل.
وقد عشت مدركا لكل شئ دون أن أفعل شيئا. والآن ، حتى وأنا أعرف أني أموت لا أستطيع أن أستل سكينا وأغمده في موضع الألم فأخرسه إلى الأبد.
هذه مسخرة!
أستسلم لما لا أريد بدافع الإنهاك ليس إلا. حتى هذه اللحظة لم أمتلك نبل الفعل. سأترك نفسي لهم يستكملون تحكمهم إلى النهاية، يقلبونني كخرقة مستمتعا بالضعف، بلذه الألم التي أتمنى الآن أن أصفها في رواية تكون عونا للضعفاء أمثالي ممن لا يمتلكون القدرة على الفعل؛ قدرة تحديد ساعة ومكان موتهم طالما لا يملكون دفعه.
لذة الألم؟!
نعم هذه السكاكين التي تقطع في بطني الآن وتوصلني إلى نشوة الإنهاك الكامل تترك جسدي المتألم هذا ضعيفا وسيدا وتضع الآخرين في موضع الخدم، بهذه الدرجة من السماحة أو الحنق. “لا” الشجاعة التي عجز العقل عن قولها في وجوه كل السادة يعلنها جسدي الآن بكل طلاقة. هذه الخرقة التي نالت أخيرا رضى أن تكون مخدومة وقد عرفت من قبل كل ضروب الخدمة وكل ضروب الألم دون لذة.
لا! لم تكن دائما دون مسرة؛ فهذه اللذة التي أستشعرها الآن نلتها عندما كنت صبيا يرتدي القميص على اللحم دون سروال، فأسي بفأس أبي سواء بسواء، نعمل في قراريطنا القليلة أو أجيرين لدى أحدهم لأعود في المساء، أنام واللقمة الخشنة في فمي، وأحس كلما اقتربت من الصحو لذة تبخر الألم وتبخر حرارة النهار من أطرافي التي أكاد لا أحس اتصالها بجسمي. فيما بعد بدأت الأحلام تخلق من تلك الحرارة اللذيذة أجسادا تداعبني وتمنحني لذة تبليل سروالي، أتذكرها في الصباح وأتذكر ملامساتها التي تقودني إلى راحة انسياب السائل اللزج فيما يشبه لذة تسرب المخدر من أطرافي الآن.
انتهت اللعبة؛ العالم يبدو منفيا ومرغما على الوقوف هنالك على بعد خطوات من باب العبد المحرر لتوه. وعقلي هذا الذي وقف من الجسد موقف النخّاس وأسلمه لاستعباد الآخرين باسم الضرورة أو الواجب طوال ستين عاما ينحني الآن ذليلا في خدمته؛ مجتهدا في مضاعفة إفراز الأدرنالين الذي يُعظِّم الخفة بحيث يبدو الجسد المسجى في خفة مركب، تهدهده الأحلام دون حاجة إلى أفيون بودلير أو خمر أبي نواس.
جسدي شبه الطائر يكتشف ألفة هذه الغرفة المحتقرة. بنصف وعي تتلمس عيني الكليلة خطوط الزمن. تشكيلات الضوء والعتمة على السقف تبدو ظلا لذلك الحيوان الخرافي قادما من سطح القمر؛ موطنه الأصلي في زمن طفولة الخيال. منذ متى حقا لم يتيسر لعيني شباك على السماء لترى القمر؟ إن كان هنالك لم يزل بالقرد العجوز الذي كنت أراه دائما على صفحته يحمل على كتفه جذعا يتدلى منه دلوا الماء الأبديان؟!
القمر! الذكرى تبدد جدران الغرفة مثل شمعة تتداعى وتسيل. يتهادى السرير على سطح العجينة اللينة من أصوات المتألمين حولي في أسِرّتهم كالمتشبثين بألواح أخيرة من سفينة حطمها الموج. موجة نعاس يجلبها غرق الأعصاب في المورفين، فموجة ألم تدفع بأعشاب وطحالب اليقظة إلى الشاطئ، وأولد من جديد لا أكاد أرى صديقي الواقف بالممر بينما أنزلق إلى بيت الطفولة.. بيت الشتاء المحاصر بمطر يحيل شوارع القرية إلى طبقة من الغرين اللزج تجعل الخروج مستحيلا، وتبدو الدور المتساندة على بعضها البعض سفنا ألزمتها النوة البقاء في المرفأ، لا يعرف ركاب إحداها عن الآخرين إلا ما يشي به دخان الكوانين، بينما يبدو الجار الذي يطلب قليلا من الخشب أو حصوة ملح كائنا من كوكب آخر ساقته مصادفة مدهشة إلى هذه القرية وإلى هذا البيت بالذات. موجة جديدة من يقظة الألم تعيد الرغبة في الاشتباك مع الأجمل في الحياة؛ يُنمِّل الجلد بحثا عن الأصابع المشتهاة. لماذا لم يخزِّن الجسد من ملامساتها ما يكفيه؟! وحشة الأصابع الحبيبة، هي فقط الجانب الخالي من الرحمة في عتمة حرية ابتدعها الألم.
“العناية المركزة”.
اللافتة هي كل ما يشير إلى خصوصية الغرفة الكبيرة التي تضم خمسة أسرّة لمحتضرين نزعوا كمامات الأكسجين التي لا تعمل وأزاحتها أذرعهم العصبية بعيدا. السرير السادس احتله عيسى استسلاما للإنهاك أو امتثالا لقرار طبيب الطوارئ الذي أعلن بحسم أن قرار التوجه إلى المستشفى بيد المريض، أما قرار الانصراف فبأمر الطبيب. بعد أن تصفح صور الأشعات السابقة أمر بإيداعه غرفة العناية لمتابعة حالته قبل عمل فحوص جديدة. “لا نستطيع أن نصف علاجا بناء على تحاليل لم نجرها نحن” أجاب الطبيب على سؤال رفعت، ولكنه أعطى عيسى حقنة مخدرة خففت من تقلص وجهه الكاظم للألم.
في الممر وقف رفعت ملوحا أمام الفتحة الكاشفة للغرفة التي تضم جوانبها بقايا مسننة من زجاج مترب. أشار عيسى له بالانصراف، ورد عليه بإشارة أخرى تعني أنه سيعود باكرا. قاده السرداب الطويل إلى البوابة التي تفصلها عن الشارع مساحة جرداء لابد أنها كانت حديقة في التخطيط المبدئي. استقل تاكسي مخلفا وراءه مستشفى التأمين الصحي، وقد اختلطت داخله كالهارب من معركة، مشاعر الفرح بالخزي.
لم يعرف بحالة عيسى إلا منذ شهر واحد عندما انهارت مقاومته للآلام، وفوجئ ذات ليلة بصراخ روز في التليفون “ألست صديقه؟! تعال خذه لم أعد أحتمل”. بمشقة ساقه إلى العيادات ومعامل التحليل الخاصة التي استنفدت ما تلقاه من مكافأة في نهاية خدمته. حاول إقناعه باستغلال حقه التأميني دون جدوى ولكن الآلام هي التي تولت إقناعه أخيرا.
واصل المخدر زحفه في رأس عيسى المجهد الذي استسلم لعذوبة نوم لم يعرفه منذ أيام. لم يدر كم مر من الوقت، لكنه قدر أنها عدة ساعات ، لأن الصمت في الخارج كان مصمتا عندما بدأ يحس بإيقاعات الأنين المتناغم للمحتضرين بجواره تسحبه بطيئا إلى اليقظة. في الضوء الخافت حوله تبين للمرة الأولى قذارة كيس المرتبة الجلدي المعرق بالدم الناشف، ولطخ الصدأ والوسخ البادية في حديد السرير. أخذ يلم أطرافه متأففا من ملامسة الجلد الصناعي البارد الدبق، ثنى رجليه داخل البالطو الأخضر الذي أجبروه على ارتدائه.
فجأة انفلق صمت الممر بجلبة عربة لم تلبث أن دخلت الغرفة تدفعها ممرضة متختخة يتفصد البالطو المترب اللون الذي ترتديه فوق الكتل الرجراجة في الصدر والجنبين والمؤخرة الضخمة. وراءها دخل طبيب شاب أخبر عيسى أنه سيتعرض لعملية بسيطة لشفط الدم من معدته. بحركة آلية تحسس بطنه الذي يواصل انتفاخه التدريجي منذ أسابيع. وكان القرف لا الخوف أول إحساسه عندما رأى الأنبوب وفكر في عدد الأجواف التي دخلها من قبل. ابتلع ريقه الذي تجمع سريعا مستسلما لهما وقد شرعا فورا في إدخال أنبوب بلاستيكي من فمه. أخذ الأنبوب يحفر بعنف في بلعومه متعثرا ومضايقا تنفسه. أبدى عيسى أقصى درجات التحمل، لكنه لم يتمالك نفسه عندما شعر بروحه تنتزع مع خبطات الأنبوب العمياء فصرخ صرخة تنتمي إلى أقصى إحساسات غريزة الحياة بدائية ونفضهما هاربا من سريره.
لم تدعه الممرضة يهرب. سدت باب الغرفة أمام دهشة العيون المذعورة فوق أسرتها، وأطلقت نداءها مستدعية ثلاث ممرضات أخريات حملنه معها إلى سريره حيث يقف الطبيب الشاب متمسكا بالأنبوب، معاودا المحاولة بكل ما أمكنه من حذر مستمعا لتوجيهات الممرضة التي بدت صاحبة سلطة عليه.
استسلم عيسى مستدعيا كل طاقته على الاحتمال حتى أنهى الطبيب زحلقة الأنبوب بتعثر أقل هذه المرة ثم بدأ في زرع أنبوبين أقل تخانة في فتحتي أنفه محكما حولهما بشريط لاصق، وبدأت الممرضة اللحيمة في فتح محبس الأكسجين لكن الأنبوبة على ما يبدو كانت فارغة. شعر عيسى بالاختناق ولم يكن قادرا أو مضطرا هذه المرة للصراخ، فأمام تحول لونه إلى الأزرق قفز الطبيب هاربا، بينما نزعت الممرضة بثبات أنبوبي الأكسجين كما سحبت أنبوب المعدة وتركته منهكا متألما من جوفه المتهيج. بعد مدة بدأ الألم يتطاير ويحل محله ثقل المخدر حتى انزلق إلى النوم مرة أخرى.
تضببت عينا رفعت بالدموع عندما رأى في الصباح التهاب أنف عيسى والسجحات في شفتيه بينما كان يحكي ما حدث بالأمس مصرا على أنه كان حلما. تركه وذهب إلى مكتب مدير المستشفى، قدم بطاقته الصحفية لواحدة من السكرتيرات الثلاث. دخلت مباشرة وعادت لتطلب منه الانتظار دقائق. رحب به المدير، قال إن كاتبا كبيرا مثل عيسى لا يحتاج إلى توصية. مرر رفعت هذه المجاملة اللطيفة لأن عيسى في الواقع لم يكتب شيئا؛ اكتفى بالعمل في قسم الصياغة بجريدة اليمين الجاهل، كما يصفها هو، يضع العناوين والمقدمات الجيدة لما يكتبه الآخرون ولم يوقع باسمه أبدا. حتى شهور قليلة مضت كان لديه إمكانيات مؤسسة صحفية تستطيع أن تنفق عليه في المستشفيات الخاصة، ولكنه بعد أن خرج إلى المعاش لم يعد أمامه سوى التأمين الحكومي.
استدعى المدير طبيبا سأله عن الحالة وانتهى الأمر بنقله إلى غرفة عادية منفردة، بعد التعهد بدفع الفرق بين السرير والغرفة، على أن يبدءوا في الغد بعمل التحليلات.
لم تكن الغرفة الموصى عليها أسوأ من زنزانة ومع توصية المدير بالاهتمام كانت هناك إمكانية مرور طبيب كل يوم وحقنة مخدرة كلما استدعت الحالة، ومع ذلك اتصلت روز برفعت في منتصف الليل تخبره أن عيسى عاد هاربا من المستشفى.
فكر رفعت في اللجوء سرا إلى طلب مساعدة رئيس تحرير الصحيفة رغم علمه بأنه يكره عيسى، فهو لا يزال يعاني من الاسم الذي خلعه عليه وصار أشهر من اسمه الحقيقي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الأول من “غرفة ترى النيل”