حدود معرفة وسلطة ومعرفة المحرر الأدبي

لا يمكن للكاتب أن يهدر فرصة لتحسين نصه؛ لهذا يسعى كثير من الكتاب إلى عرض أعمالهم على أصدقائهم قبل نشرها والاستماع إلى اقتراحات التعديل بكل جدية. أنا شخصيًا أفعل هذا، بل ولا أعرض عملي التالي على صديق قال لي إن ما كتبته كامل الأوصاف. وبالنسبة لدار النشر، أسعد إذا كان لديها مشورة. روايتي الأحدث “البحر خلف الستائر” كنت قد منحتها عنوان الطارئ. وطلبت مني دار الآداب تغييره فوضعت قائمة من المقترحات، وعرضتها أولاً على صديقي الشاعر وليد خازندار  فلم يعجبه منها شيء، واقترح البحر خلف الستائر فأعجبني.

لكنني أتفهم أسباب من يرفضون عمل المحرر الأدبي، والأمر يتطلب نقاشًا حول وجود المحرر الأدبي من الأساس وحدود معرفته وحدود تدخله في النص.

أعتقد أن العيب لا يكمن في نرجسية الكاتب بقدر ما يكمن في حرفة النشر العربية التي لم ترق بعد إلى أن تصبح صناعة ذات تقاليد مؤسسية وتخصصات وأدوار محددة للعاملين في هذا الحقل. ومن بين التقاليد الغائبة تقليد المحرر الأدبي، وهذا يعود جزئيًا إلى غياب التقاليد المؤسسية؛ فمعظم دور النشر مشروعات فردية، قد يغار صاحبها من وجود سلطة أخرى توازي سلطته، لكن السبب الأهم مادي؛ فمعظم دور النشر غير مستعدة لتحمل أعباء وظيفة كهذه، والنتيجة هي ما نراه؛ فإما أن الوظيفة غير موجودة بالمرة في الدار أو موجودة بأجر جزئي لا يكفي لانقطاع شخص لهذه المهمة بما يحولها إلى مهنة راسخة ويرسي التقاليد والخبرات التي  يحتاجها المحرر الأدبي.

المحرر ـ في حال وجوده ـ يمارس هذا العمل إلى جوار وظائفه الأخرى؛ فقد يكون محررًا صحافيًا يشك الكاتب في خبراته أو تحالفاته في الوسط الأدبي، وقد يكون كاتبًا زميلاً وهذا أدعى لإثارة الحساسية والريبة بين الطرفين.

وفي كل الأحوال لا يخلو المحرر الأدبي العربي من طموح التأليف وبالتالي طموح المنافسة، بعكس المحرر الأدبي في الغرب؛ فهو ليس في وضع تنافسي مع الكاتب، ولا طموح لديه لرؤية اسمه على غلاف، هو قارئ متميز وخبير في سوق الكتاب يؤدي وظيفته ضمن فريق فني وتسويقي لصالح المؤسسة التي يعمل لديها، وبالتالي لصالح خروج الكتاب في أفضل صورة.

خبرات القراءة لدى المحرر الأدبي المنقطع لحرفته تجعله أقدر على استشعار مواضع الإسهاب الممل والإحساس بالنقص في مواضعه، وفي الوقت ذاته يعرف الموضوعات الرائجة في سوق القراءة، الأمر الذي قد يصل إلى حد اقتراح موضوعات محددة والبحث عن كاتب لها. مع ذلك يعرف المحرر الأدبي حدود دوره، فلا يسعى إلى احتلال مساحة الكاتب، لأن الذواقة الجيد ليس بالضرورة طاهيًا جيدًا، ولذا يمضي بين القدور ليطلب إضافة القليل من الملح في هذا أو البهارات إلى ذلك، دون أن يمد يده ليُصلح بنفسه ما أفسده الطاهي.

هذا الوعي بالأدوار يرسم تقاليد تدخل المحرر في النص؛ فلا يقوم بالتعديل من تلقاء نفسه، ويقتصر تدخله على تقديم المشورة التي يستطيع الدفاع عنها بمبررات فنية وتسويقية مقنعة، وفي الوقت نفسه يستطيع الكاتب تقديم دفاعاته عن خياراته، وطالما لا توجد ريبة بين الطرفين وطالما كانت مصلحة النص هي الحاكمة فإنهما يصلان بالضرورة إلى اتفاق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شهادة نشرت في جريدة النصر الجزائرية