في السنوات الأولى من إقامته في البرج، كان يستخدم الصندوق الحديدي للصعود أكثر مما يستخدمه للهبوط. وفي كل مرة يصل إلى الطابق السادس والعشرين يترجل ويعطي ظهره لباب المصعد ويقف لحظات متحيرًا. جهة يده اليسرى بركة السباحة وعلى اليمين صالة البخار والجاكوزي وصالة الألعاب الحديدية وغرفة التدليك. ولأنه كائن مائي، لم يكن يدخل صالة الألعاب إلا نادرًا. المقارنة اليومية المحيرة التي تنعقد في رأسه كانت بين بركة وحشة ممتعة تنتظره في بركة ماء بارد تدفئه السابحات وأشعة الشمس المتسللة من زجاج القبة النهد وبين بخار ساخن في غرفة البخار مظلمة تمنحه سلام وحشة العزلة.
ولا يمكن لكل البشر أن ينظروا إلى الماءين من الزاوية نفسها. البركة الباردة تعد بإمكانية لقاء الحب منظورًا إليها بعين طارىء لم يزل ماء الحياة يتدفق برعونة في عموده الفقري. وبالنسبة لطارىء تضاحل ماؤه فهي مكان لتطهير المجرى وإحيائه وبالنسبة لطارىء عاش حتى تيقن من عبث الانتظار؛ فهي مكان لتذكر ما لم يعشه.
وقد أقلع منذ سنوات طوال عن البركة التي تبدد سلامه بلا داع. ولأن أطرافه لم تعد قادرة على تحريك الحديد،
لم يتبق له في الطابق السادس والعشرين سوى غرفة البخار التي تمنحه همودًا يشبه ذلك الذي يصنعه لقاء حب عاصف. عيب غبطة الاستحمام أنها هشة، سرعان ما تتبدد مع زوال أثر البخار الحار من المفاصل.
لم ينتظر في ذلك اليوم تسلل الهواء البارد إلى أعضائه كي يفقد اكتماله. جفف نفسه جيدًا وغادر غرفة البخار سريعًا، آملاً في الوصول إلى الفراش بغبطة الهمود اللذيذ ليحظى بساعة نوم بعد أن هزم الأرق كل أنواع الحبوب المنومة. وصل إلى المصعد في لحظة إغلاق أبوابه للهبوط، لكن العلبة الحديدية ارتجت بفعل اليد التي امتدت إلى الأزرار في الداخل لتعرقل الإغلاق.
ـ آسف.
قال مترددًا في الدخول إلى المصعد.
وردت بالخجل ذاته:
ـ آسفة.
كان خجل المباغتة واضحًا على كل منهما، بينما كانت عيناها تدعوانه للدخول. وجد نفسه في علبة المرايا مع امرأة وحيدة ترتدي لباس السباحة. أخذا يرتعشان، لا فرق بين المبللة بالماء البارد والمبلل بالبخار. كان واضحًا من نظراتها التي تنفرش على وجهه أنها عرفته قبل أن تعرقل المصعد، أما هو فلم يتبينها إلا من ارتعاشة شفتيها النحيلتين اللتين أعادتا إليه لحظة سعالها الصعبة.
أضاف الزمن بضعة كيلو جرامات إلى جسمها وأنقص قليلاً من طولها. لكن النظرة بقيت كما هي، من دون زيادة أو نقصان. الشعاع المنطلق منه إلى عينيها المرحبتين حمله إلى بحيرة حياتها من دون قدرة على مقاومة الجاذبية.
مثل طفل على زلاقة، سرعان ما انزلق إلى ذكرى ذلك اليوم العائلي، حيث كان بوسع أحدهما أن يبادر إلى حفر مجرى للنبع الذي تدفق بينهما، لكن أيًا منهما لم يفعل.
أخذت خيوط نظراتهما تتعقد أكثر فأكثر كلما اندفع المصعد هابطًا، وكانت كل ألوان المشاعر تتدافع في العيون مثل عرض سريع على شاشة. همّ أن يقول لها شيئًا ولم يستطع، همت أن ترد على ما لم يقله ولم تقدر.
حدّق الطارىء في الجسد المبلل أمامه محاولاً ما أمكنه حجب الأسى على ما لم يكن.
ـ كيف تتجول هكذا؟!
قال لنفسه مندهشًا. هل هي مستهترة إلى هذا الحد، أم أمنت ساعة القيلولة الساكنة ولم تتوقع أن يراها أحد في الممر أو يشاركها علبة الحديد؟ هل حدث مكروه للزوج أو الابن في الغرفة لكي تذهل عن نفسها وتعود عارية تقطر ماء؟ هل الرجلان لا يزالان معها في البرج أم غادرا؟ كيف سيكون شكل الصبي الآن؟
وكانت عيناها المتفحصتان تسألان هل ما يزال وحيدًا؟ ألم يتعرف على طارئة تتسلل إلى مساءاته؟ هل كان نحيفًا هكذا؟ هل كان له هذا القتب الصغير منذ البداية؟ هل احدودب حقًا أم أمالته الرغبة نحوها حتى ليكاد يلتقم شفتيها؟
أضاءت علامة الطابق الثاني والعشرين وانفتح الباب. لم يتحرك. أخذت عيناه تبتهلان إليها كي تتبعه، تحرك خطوة، تحركت نصف خطوة. وبخطوة ثانية صار على عتبة المصعد مفتوح الباب، أضافت خطوة أخرى لكنها جفلت وتراجعت عن نصفها ثم جمدت. زاد اضطراب الطارىء فاتخذ الخطوة الثالثة محررًا باب المصعد من ظله.
ـ آسف.
قال بارتباك.
ـ آسفة.
جاوبته كما لو كانت تحلم، وبدأ المصعد يخرخش استعدادًا للهبوط.
فصل من “البحر خلف الستائر”