لم يخطئ سلامة في اختيار الوقت المناسب، ولا مرّة واحدة في حياته، لكنّه اختار التوقيت الخطأ لموته.
كان متّكئًا في فراش احتضاره تسنده مسعدة، بينما وقف شقيقه محمود والحاجّة مباركة والحدباء يتابعون لهاثه الواهن، عندما قطع التليفزيون إرساله وبدأ في بثّ تلاوات قرآنية.
ردّ يد مسعدة بكوب الليمون. غمست إصبعين بالكوب وبلّلت شفتيه. أشار إلى الملتفّين حوله فمدّدوه. تجشّأ بعمق وسكن. أسبل محمود عينيه متمتمًا بالدعاء، وشدّت مسعدة الغطاء حتى أخفت وجهه. في اللحظة ذاتها توقّفت التلاوة في التليفزيون، وانطلق صوت متهدّم: «أيّها الإخوة المواطنون فقدت الإنسانيّة كلّها رجلاً من أغنى الرجال، رجلاً من أغلى الرجال وأشجع الرجال وأخلص الرجال، هو الرئيس جمال عبد الناصر…».
غاب الصوت تحت هدير أخذ يرجّ زجاج الشبّاك مثل مرور الطائرات المنخفض الذي عرفته العشّ. لم يبق أحد في داره، رغم الظلام الذي عَمّ العشّ بانقطاع الكهرباء. ألقى عليّ بنفسه من فوق كرسيّه المتحرّك واتّصل نحيبه وصراخ الفتيات داخل السراي بهدير الصراخ في الشوارع، بينما جمد الكبار في مكانهم أمام جثمان سلامة.
مثلما يفعلون عندما ينتظرون جثمان أحد أبنائهم قادمًا من مدينة بعيدة، لم يدخل الناس دورهم طوال الليل، احتلّ الشيوخ والنساء المصاطب في الشوارع والحارات، وأخذ الشباب يتمشّون على الطريق خارج العشّ، حيث لن تأتي عربة دفن الموتى بأيّ جثمان، لكنّ الفاجعة أعادت حالة التكاتف التي لم تعد تعرفها العشّ، بعد صيف الحرائق ونوبات الفيضان التي طواها النسيان منذ اكتمال بناء السدّ العالي؛ الخزام الذي لوى به عبد الناصر عنق النيل، ومنعه من الجموح.
في الصباح تمكّن الطبّال بصعوبة من المرور بين الحشود الباكية المستغربة سلوك طبال مختلّ؛ لأنّ موت الزعيم لا ينتظر طبله للإعلان عنه، ولم يسمع أحد إلى صياحه باسم سلامة.
وعندما حمُل الجثمان إلى المسجد، صلّى عليه كلّ رجال العشّ، ولكن بالمصادفة.
انتحب الإمام وهو يقيم صلاة الغائب على روح «الزعيم الخالد جمال عبد الناصر» وفي إضافة لم ينتبه إليها أحد قال «ومن حضر من موتى المسلمين».
لم يحسن الإمام ولا أيّ من المردّدين خلفه نطق حرف واحد من تلاوتهم ودعائهم. وعندما انتهت الصلاة تجمّع ابنه وأحفاده وحملوا النعش، الذي صار خفيفًا مثل ريشة، يتأرجح فوق الحشد، لاحظ عبد المقصود أنّ أباه يكاد يطير. أخذ بالتهليل.
ـ كرامة يا ولاد، الله أكبر، الله أكبر.
بدأ حملة النعش يتجاوبون مع خفّته، مواصلين التكبير، بينما أخذ الحشد بالتناقص حتى وصلوا إلى المقبرة. كشفوا الغطاء الحريري الأخضر، فلم يجدوا الجثمان. كان الصندوق ملآنَ بقطن الموسم. انتبه محمود إلى أنّ نعش شقيقه أُبدل مع النعش الرمزي للزعيم. أعادوا نشر الغطاء، وركضوا في كلّ اتّجاه يبحثون عن الجثمان الأصلي الذي يدور به المنتحبون.
كثيرون لم تثبت في ذاكراتهم وفاة سلامة. متخاصمون يرفض أحدهم تحكيم محمود في مشاجرة أو توزيع إرث أو حقوق مطلّقة، فيطلب منه الاحتكام إلى «العمدة الكبير». تخرج مسعدة إلى عزاء فتسألها النسوة عن صحّة العمدة الكبير. حتى الأحفاد كان بعضهم يخطئ ويكتبه على رأس قائمة العائلة عندما يُطلب منهم ذلك عند التجنيد، أو التقدّم إلى وظيفة. مع ذلك كان موته ثقيلاً على السراي، لأنّه بدا تأطيرًا لكلّ وقائع الموت السابقة.
ـ اتسرق منّنا.
يقول الشقيق الذي كان أكثر اقتناعًا من الآخرين في العشّ بأنّ العمدة الحقيقي هو سلامة، وأنّ ما قام به في المنصب كان مجرّد مساعدة فيما لم يعد سلامة يقوى عليه. ابنه وأحفاده وكلّ من في السراي شعروا بالتقصير معه في سنواته الأخيرة. لم يقدّروا حزنه الصامت على عادل، ورغم التدهور الذي انزلق إليه، كانوا يتصوّرونه موجودًا إلى الأبد. يرونه جالسًا بالساعات على دكّته ينظر إلى الخارجين والداخلين، لا يكلّف بعضهم نفسه إلقاء تحيّة عليه، ينعس ويستيقظ ليذبّ الذباب عن وجهه بمنشّة من ذيل عجل، ثم يغفو من جديد.
لم يكن يجلس معه سوى حفيده عليّ. يدفع كرسيّه المتحرّك بيديه، وينزل من الفراندا إلى الحديقة على المنحدر الذي أقاموه خصّيصًا له على جزء من السلالم، مندفعًا كمن يقود سيّارة سباق، يوقفها أمام جدّه الغافي على الدكّة فيستيقظ مذعورًا من صوت كوابحها.
ـ صحّ النوم يا حاجّ.
يبادره عليّ، ويصوّب الحاجّ سلامة نظره إلى نهايتي الفخذين البنّيّتين بلون الكبد تبدوان من تحت جلباب عليّ الشفّاف. يرى الإشفاق في عينيه؛ فيداعبه:
ـ احمد ربّنا، رجعت لك حتّة منّي، مش أحسن من مفيش؟
ينظر الجدّ بذهول إلى حفيده متعجّبًا من عينيه المصمّمتين، بينما يحكي له عن تدريبه، والروح التي وُلدت في الجيش.
ـ روح؟ بيتمرقعوا وأولاد الناس تموت وتقولّي روح؟!
يقول الجدّ، ويردّ عليّ:
ـ كلّ دا اتغيّر.
يشيح سلامة بيده غير مصدّق.
ـ الراجل دا أنا مارتحتش له لمّا جه العشّ.
يضحك عليّ.
ـ يا جدّي دا انت كنت طاير م الفرحة.
ـ واجب الضيافة، هو انت كنت قدّ إيه عشان تعرف؟
لا يستطيع عليّ أن يزحزحه عن موقفه. وعندما قطعت الإذاعة إرسالها وأُعلن عن استشهاد الفريق عبد المنعم رياض، رئيس أركان الجيش، في آخر نقطة تماسّ مع العدوّ، اندفع عليّ إلى جدّه، كأنّه كسب رهانًا.
ـ ودا كمان بيتمرقع؟!
عندما أنهى عليّ سنته الأخيرة في كلِّيّة الهندسة، سلّم نفسه للتجنيد، مثل أبناء أعمامه وملايين الشباب، لا يحلم إلّا بالثأر، لأنّ الصفعة التي خلّفت شهيدًا في كلّ عائلة كان يجب أن تُردّ.
بعد التدريب الأساسي التحق بسلاح المهندسين، عاش ملحمة بناء حائط الصواريخ تحت قصف الطيران المعادي، واستطاعوا في النهاية إقامة الخطّ الدفاعي الذي كان خطوة كبرى في الاستعداد للثأر، أوقفت نزهات الطيران الإسرائيلي فوق سماء مصر.
لم يتمكّن عليّ من زحزحة جدّه عن آراء يقول إنّها نتيجة خبرة حياة وليست مجرّد تهيّؤات. تدهورت صناعته وتجارته في ظلّ حركة الضبّاط، فقد أخاه وابنه في حروب دخلوها من غير استعداد، وعاد واحد من الأحفاد عاجزًا، ولا يعرف ماذا يكون مصير بقيّة الأحفاد الغائبين. يعود الواحد منهم في إجازة قصيرة، أو يعبر لساعات قليلة لا تكفي لتبريد نار أمّه بلقمة تصنعها له بيديها.
ـ الكتيبة بتتنقّل والقائد سمح لي أسلّم عليكم.
يقول الشابّ غير المستقرّ في جلسته كضيف متحرّج، ينظر إلى ساعته أكثر ممّا ينظر إلى محدّثيه، ثم يقف معانقًا كما لو كان وداعه الأخير.
لم يبح سلامة بألمه على غياب عادل، إلّا لعليّ. لم يكن يرى أيّة جدوى لرحلات مسعدة، لكنّه لم يشأ أن يضاعف أحزانها. يستمع في كلّ مرّة إلى حكايات رحلتها، يغبطها على لمعة الأمل في عينيها. يخشى الحرب أكثر ممّا صار يخشى إثارة المشكلات مع أيّ من عائلات العشّ.
راح يواصل انطفاءه يومًا بعد يوم، لكنّه ظلّ، حتى اللحظة الأخيرة، واعيًا بنفسه، يستحي أن يسيل لعابه، أو يأتي بحركة غير لائقة. بدأ يتناول طعامه منفردًا، محافظًا في تعاملاته، حتى مع أحفاده، على قواعد الذوق في التصرّف، التي قد تفوت الكثيرين. مرّة انتبه إلى ناجي محمود، يضبط الكاميرا عليه خلسة، كي يلتقط لحظة شروده.
ـ هتصوّرني يا ناجي؟
أشار له الشابّ مستمرًّا في ضبط الكاميرا.
ـ طيّب مش أصول تستأذن؟
الملاحظة التي أبداها الجدّ المتداعي حكاها ناجي مرارًا لزملائه في المستشفى، مؤكّدًا أنّ الكثيرين من خرّيجي الجامعات لا
يعرفون هذا الحقّ الذي دافع عنه عمّه.
ـ لو باعرف أشعِر، كنت ألّفت عن جدّكم كتاب قدّ ألف ليلة.
قال العمدة محمود مخاطبًا عليّ والحفيدات، بعد أن تحوّل موت سلامة إلى مجرّد جراحة استأصلت سنوات الضعف الأخيرة. لم يبق في ذاكراتهم منه إلّا سنوات انتصاره؛ واقفًا أمام طابور من عمّاله يوزّع عليهم أجور الأسبوع، أو بين أعيان المنطقة قاضيًا في القضايا العويصة، لا تُردّ كلمته، أو عندما عاد من السراي منتصرًا على الأشباح.
لكنّ الحياة التي غرسها في السراي أخذت تتبدّد. كانت رائحة الموت تتصاعد في كلّ مكان، من الحديقة المهملة، ومن الغرف المظلمة التي أتت الشمس والأمطار على شبابيكها، من المطبخ الذي لم يعد يُستخدم بعد أن استعاضت عنه النساء بكانون بنينه في ركن من الحديقة، تتقافز السحالي بجواره لتختفي في أكوام الحطب وأقراص جلّة الماشية المخزّنة كوقود.
___________________________
مقطع من “بيت الديب”