عن طفولاتنا وألعابها الصغيرة التي نسيناها

Balthus2

كنت طفلاً فائق الحسن. ولا تعتبروا هذا نرجسية أو تبجحًا مني؛ فمن أتحدث عنه طفل لم يعد أنا . كاد ذلك الطفل أن يفقد حياته في لعبة حسية، لكنه عاد من الموت بأعجوبة ليعيش دون فتنة.

كانت فتاة قد استعارتني من أمي شديدة الحرص ودارت بي ذات عصر حول القرية، وعندما عادت طلبت منها أمي أن تضع حشوة حطب تحت حلة اللحم الذي لم ينضج بعد، وجلست الفتاة لتنفيذ ما أُمرت به؛ فتدحرجتُ من حجرها إلى الكانون المشتعل!

عوملت الفتاة بكل تسامح، لأن عمتي عرفت العين التي أسقطتني إلى النار، حيث قالت لها جارتها: إن لك ابن أخ يخذي العين مرت به للتو إحدى الفتيات. ولم تمض سوى دقائق حتى هرولت عمتي من بيتها القريب على صرخة أمي المذعورة.

لم تعد أمي إلى إعارتي أو إعارة أي من أخوتي الذين ولدوا بعدي مرة أخرى، ولكن السهم كان قد نفذ، والطفل الذي كان فتنة صارت العين تعبره بشفقة، ومن حسن الحظ أن الحروق في تلك السن المبكرة لم تترك أثرًا سوى ضعف في القوى استمر لسنوات كانت كافية لإقصاء الوسامة المشتهاة لدى الرضيع!

حمل الطفل كان إحدى العادات الشهوانية للفتيات المقبلات على الزواج. وليس كل الأطفال منذورين لهذا التدليل، فالطفل الدميم سيجد بالكاد حضن أمه، وقد تتخلى عنه هي الأخرى إن كانت من المعجبات بأنفسهن، حيث ستكره أن يُرى معها باعتباره إساءة  إلى جمالها.

  الأطفال الذكور والأكثر وسامة بشكل خاص، يصلحون تمائم للحب رغم أنوفهم الصغيرة!

صحيح أن البنات في كل العالم يبدأن في ممارسة الأمومة مبكرًا باللعب بالعرائس وأدوات المطبخ، لكن حمل البالغة للطفل لا يتصل بحنان الأمهات، بل بإغواء العاشقات. تبدأ الشابة استعدادها للحب باستعارة الرضيع الذي تدفئ به صدرها وتضرب بحمله عصفورين بحجر واحد:إرضاء أشواق جسدها الغامضة وتقديم الوعد لعيني الرجل المبتغى الذي عليه أن يتوقع دفئًا مماثلاً لذاك الذي يتلقاه الطفل المحمول، وأن ينتظر خصوبتها التي ستمنحه طفلاً مثله!

عندما يكبر الرضيع  ويصبح عليه أن يترجل، لن يفقد وظيفته لدى المرأة ولكن ستصير لديه مهمة أخرى، حيث يُسحب في اليد تغطية للقاءات السرية متخذًا صفة الحارس كلما اتخذ الحبيب صفة خياطة أو صديقة. وقد منحه يوسف إدريس لقب “مندوب العائلة” المكلف بحراسة الحَمَل النحيف من قطعان الذئاب. الطفل في قصة “محطة” كان يتمتع بالقدر الكافي من الغفلة كسائر مندوبي العائلات. وأخذ يتابع حركة الشارع من زجاج الأتوبيس المزدحم، متيحًا الفرصة لأحد الذئاب كي يضرب موعدًا مع الحمل الذي لم يبلغ صدره بعد حب الرمان!

غالبا ما يستمر الصبي في أداء مهام الحارس الغافل، بينما يحظى الصبية أصحاب الحظ بمهام الرجال، عندما يؤمرون بالمداعبات السرية. ولم يكن باخوس سوى واحد من هؤلاء حيث أوكل أبوه جوبتر  مهمة تربيته إلى الحوريات بعد احتراق أمه سيميلي التي لم تحتمل جمال الأب عندما تجلى لها بإلحاح منها. وقد ضمنت رعاية الحوريات للرضيع باخوس أن يصير إلها للخلاعة فكافأهن أبوه بتخليدهن بين النجوم.

وتشبه قصة العثور على باخوس رحلة يوسف إلى مصر: قال البحار أيستس للملك أنه كان في سفينته عندما أرسل رجاله لإحضار ماء عذب فعادوا له بهذا الغلام اللطيف المظهر “باخوس” الذي طلب منهم التوجه به إلى ناكسوس موطنه الأصلي، ولكنهم أبحروا به في الاتجاه المعاكس لبيعه كعبد في مصر. والذي يهمنا ليس هذا التماثل في الرحلة، بل في اجتماع النسوة وكلفهن بيوسف مثلما تبعت النساء باخوس.

لعب المرأة بالغلام قصة تتردد في جنبات الواقع ولا يتطلب الأمر سوى ذاكرة متواضعة وقليل من النزاهة ليكتشف كل رجل أنه أدى يومًا بعضًا من هذه الخدمات واعيًا أو من دون وعي. في اعترافاته يقص جان جاك روسو عن محبوبتين تمتع بهما أو تمتعتا به وهو في الحادية عشرة، إحداهما الأنسة دو فولسون التي كانت في الثانية والعشرين، ويعترف أنها استخدمته بمكر لكي تستر غرامياتها الأخرى أو لكي تغوي رجلها الحقيقي بمشهد لعب مشوق، ولكنه هو شخصيا أخذ الأمر بكل جدية ووصل عشقه إلى درجة الجنون. على أن عاطفته المشبوبة لم تتجاوز رأسه، وفي الوقت نفسه كان يخلو بفتاة من سنه هي الآنسة جوتون، وقد اختارت هي الأخرى أن تقوم منه مقام المعلمة.

يطيب للمرأة أن تقوم بدور المعلمة تحقيقًا لذاتها في مواجهة القوانين والأعراف التي يصوغها الرجال من شؤون العبادة والحكم إلى الأوضاع التي يجب اتخاذها في الفراش!

ويمكننا أن نخمن حجم الخدمات المتبادلة بين النساء والأطفال في ظل شرائع كانت تحرم على الأرملة الزواج بعد وفاة زوجها أو بسبب الشرط الغريب الذي وضعته تعاليم الفيدا بأن تكون سن الرجل ثلاثة أمثال سن زوجته. ومن حسن حظ النساء أن الديانات التي أحكمت الحصار حول المرأة المهجورة وأغلقت عليها جميع المنافذ بتحريم الزنا والسحاق وسفاح القربى والاتصال بالحيوان لم تنتبه إلى الشرر البريء الموجود في متناول أية امرأة. ولم يكن لهذا الحظ الحسن أن يتحقق سوى بانعدام الذاكرة لدى الرجال النـزويين الذين لا يعبئون سوى بصلابة أسلحتهم في طرق الغزو المستقيمة وينسون الشوارع الجانبية الآمنة التي كان بمقدورهم السير فيها عندما كانوا أطفالا!

“نلعب عريسًا وعروسًا” هو دائما اقتراح طفلة يلبيه طفل فيكتشفا معًا أنهما بالحقيقة أحياء، ويعرفان للمرة الأولى السعادة التي تأتي من الداخل وليس من حلوى أو ملابس جديدة يدفع ثمنها الكبار. ولا يشعر الأطفال بأي إثم في هذا التجاور الحلمي اللذيذ.كنا نلعب هذه اللعبة في وجود أطفال آخرين بمثابة المدعوين في حفل محاكاة الزفاف، ولم يكن المدعوون أقل خيالاً، فكانوا يتظاهرون بشرب شربات الفرح الذي لم يُقدم لهم حقيقة، بل تمثيلاً  إذ يحلو لصبية أخرى القيام بدور الأم أو راعية العرس، تدور بدورق خيالي تصب منه الشربات في أكواب خيالية، تتلقفها منها أيدي الصبية والصبايا. وكثيرًا ما يندس بين هذا الجمع السعيد طفل فاقد للخيال، مخلص لوحشية أسلافه الرجال يشي بالحفل. وتنال العروس عقابًا يعيش معها ما تبقى من حياتها، بينما يضمن الطفل الواشي أن يكون الرجل الأول في بؤس الحياة المهددة دائما بقلق الخذلان، مبددًا فرصته في شيخوخة سعيدة كانت في متناوله لو أنه ـ بدلاً من الوشاية ـ تعلم من التمثيلية العذبة الدرس الأول في عزف سيمفونية الجسد التي ينبع جمالها من اللمسات الفرعية للوتريات وليس من الذرى الصاخبة للطبول وآلات النفخ النحاسية.

 

___________________

من كتاب “الأيط” في المباهج والأحزان
Balthus