ليس في البرج أنهار خمر ولا بارات ولا مراقص. والوفرة من الطعام لا تصنع وحدها جنة.
المستنيمون لخداع البصر والذين طرأوا بعد تصفية حسابهم مع الدنيا بوسعهم رؤية الكمال الفردوسي في البرج، أما من يحملون جحيمهم في داخلهم فلن تنفعهم مزاود البوفيه المفتوح، لكن بوسع الواحد منهم أن يستعيض عن نهر الخمر بقنينة في خزانته لن يكتشف وجودها أحد، وأن يراقص طارئة تتسلل إلى غرفته، أما قدامى الطارئين فيمكنهم استعادة أمسياتهم البعيدة السعيدة التي يتزايد وضوحها في ذاكراتهم كلما نأت في الزمن.
كثير من الطارئين يجدون أنفسهم وسط كهف الذكريات الذي انزلقوا إليه خطوة خطوة من دون أن يتمكنوا من معرفة اللحظة التي بدأ فيها زحفهم العكسي، لكنه عرف اللحظة بوضوح تام، عندما أمرته طبيبة البرج بحسم:
ـ عليك أن تبتعد عن الانفعال حتى تبرأ أو تغادر.
بدأ الاستعانة بزر التحكم في التليفزيون لتبديد ساعات الأرق الطويلة في الليل وصراخ الغرفة المجاورة في الظهيرة. بتصويبة واحدة يجد نفسه في أرض معركة أو ساحة احتجاج أو مرقص. وسرعان ما يكتشف أن مشاهدة الحياة تنعش وحشته بدلاً من أن تقتلها. بيأس يضغط زر الإغلاق ويستعيد الصمت، يتقلب محبطًا من رحلة أضجرته ولم يشم فيها روائح جروح المحاربين أو عرق الثوار أو عطور الناعسات على وسادات الأفلام أو الخلطة الشبقية لروائح الأجساد المدبوغة بالدخان والكحول في المراقص.
ـ إذا عجزت عن قتل الوحشة بتصويبة؛ فلتحاول إغراقها.
حدّث نفسه من دون صوت، وكأنه يكتشف للمرة الأولى وجود حمام بالغرفة، حيث الماء بدرجات حرارته المشتهاة، أنواع الصابون المعطرة المتراصة على إطار حوض الاستحمام، والمناشف النظيفة. بهجة البلل كانت منذ الصغر ملجأه الأخير. عندما يحزن أو يمرض يمضي إلى الماء، يغطس بقدر استطاعته على حبس أنفاسه، ثم يطفو خفيفًا تاركًا أحزانه في القعر.
غادر السرير. نزع بيجامته وألقى بها على الأرضية الموكيت. تحرك أمام مرآة الغرفة التي أسلمته إلى مرآة الحمّام، مغتبطًا بما يعتبره أهم ثمار العزلة: حرية التعري.
جلس على التويليت، تخفف من خزين مثانته بينما كان البانيو يوشك على الامتلاء. انزلق في جرن الماء الساخن وأفرغ قنينتي رغوة صنعتا كثيبًا أبيض فوقه. أسند رأسه على حافة حوض الاستحمام خارج الماء وجعل قبضة الصنبور في متناول يده، كلما انتصرت البرودة على الدفء فتح المزيد من الماء الحار. وعندما أوشك الحوض على الفيضان اكتشف أن ما يصلح لصد نوبة حزن أو انفلونزا في بدايتها لا يصلح لطرد الوحشة المتمكنة من روح تمضي نحو الشيخوخة.
تأمل أعضاءه الهامدة في المرآة من خلال فتحة البُرنس الأبيض، متذكرًا مستدعيًا صورة همبرت همبرت قبل أن يطلق الرصاص على الرجل الذي نازعه قلب لوليتا. تخلى عن البرنس واندس متداعيًا تحت الملحفة البيضاء.
ـ لا أمل في لوليتا تُسعد أو تُشقي.
قالها بصوت مسموع باتر. أغلق عينيه مستجلبًا النوم، لكن خدر الحمام الساخن كان يتبدد ويحل محله صحو عنيد، محروسًا بصفين من الوساوس والمخاوف والاشتهاءت. اعتدل في جلسته، كملاكم يريد الالتفاف على اللكمة التي يتوقعها من الأرق.
ـ لا يفل الوحشة إلا الحديد.
نفض الغطاء. أزاح ستارة الواجهة لم يزل ضوء النهار عنيدًا. ارتدي الشورت والتي شيرت. انتعل خف القنب الأبيض ولم يحمل في جيبه سوى بطاقة الباب، صاعدًا الطوابق الأربعة بين غرفته والنادي الرياضي، قاصدًا غرفة الجيم المستطيلة التي تتراص ماكينات الجري على واجهتها الزجاجية التي تطل على البحر. إطلالة من شأنها أن تجلب الرضى للطارىء الذي لا يفهم كيف يكون البرج برجًا أو تكون المدينة مدينة من دون إطلالة على ماء عذب أو مالح، لكن لجة الماء الساكن تبدو خيالية إلى درجة تنزع عن البرج والمدينة صفاتهما.
مقطع من رواية: البحر خلف الستائر ـ دار الآداب