الحياة الأخرى لكثيرين.. رسائل من عبدالمنعم رمضان

imageimage

عبدالمنعم رمضان

1ـ إلى أحمد عبد المعطي حجازي

لم أتحسّر وأحزن على موقفي من أحدٍ، قدْر حسرتي على موقفي منك، فأنت أول من أحببتُ من الشعراء، وأنت أول من قدَّمني لقرائه في «روز اليوسف»، وأنت أول من حفظتُ قصائده وزهوتُ بإنشادِها في الندوات، لكن الزمن أجبرنا على أن نكبر، نحن نكبر ونشيخُ وأنت تكبرُ وتطفو، أظنه إناءك النظيف من المعرفة المؤرِّقة هو الذي عصَمك من الشيخوخة، فاكتفيتَ بالطفو، اكتفيتَ بمديح الأنظمة والرؤساء، دواوينك: «مدينة بلا قلب»، و «مرثية العمر الجميل»، و «كائنات مملكة الليل»، كانت تكفيك، لكن جناحيْك جناحيْ الوطواط، ارتفعا ببعض شعرك وانخفضا بغالبية حياتك، ولأن الباقي من الزمن ساعة، سأسألك: متى تستفيق وتكف عن الوقوف بأبواب الرجال الجوف، أبواب الحكام، الأبواب الواطئة؟

image

2 ـ إلى يحيى حقي

أحببتُك كأنك أبي، قرأتُ أعمالك كطالب علمٍ ومعرفةٍ، فوجدتني طالب فتنة وإمتاع، جلستُ على بابك ولم تطردني، ودخلتُ مجلسك فأومأتَ وغمزتَ لي، كتابك (صح النوم) أفزعني من الديكتاتورية، لم أعاتبك إلا يوم إهانتك بمنحك جائزة الملك فيصل، وقبولها، كتاباتك كلها نقيض الجانب المُظلم الذي تُقيم فيه الجائزة، كتاباتك كلها في قلب الحداثة والعالم، كما لم أحتمل قبولك لطباعة أعمالك الكاملة بهيئة الكتاب بعدما قطَّع أوصالها فؤاد دوّارة، ظللتُ أنتظرك في أماكن كثيرة، لكنك تُفضّل أن تظهر في بيتي، ابنتك نهى تُهين تراثك مثلما فعلتْ كريمة زكي مبارك وطارق محمد مندور وعامر العقاد وابنتا نجيب محفوظ؛ أين أبناؤك الحقيقيون؟

3 ـ إلى نجيب محفوظ

أعرفُ أنك تستحق تمامًا جائزةَ نوبل التي تأخرتْ، والجوائز كلّها للمكافأة والتدجين، وأعرفُ أنك تتفقُ معي في استحقاقِ توفيقِ الحكيمِ لها، وسوف نتصايح معاً، أنه في حينه كان الأكثر استحقاقًا، ولكنك لم تنلها إلا بعد مباركتك عن اقتناعٍ وبدون غرضٍ لاتفاقية كامب ديفيد، كأنها العلامةُ التي ينتظرها الغربُ الضِّليل، لعل مشاعرك تلجلجت واضطربتْ عندما تذكرت أن السادات تحصّل على نصيبه من نوبل، مما أكّد زيف الجائزتين، أنت أكبر من نوبل، ومن السادات، ومن أشباهه، ومن زويل، فلو أن زويل لم يُصبحْ أميركيًّا، ولم يزُرْ إسرائيل كلها، الجامعة والمعمل والكنيست، لما نال الجائزة، هل تشعر أحيانًا بالأسف، يسُرني أن تقول نعم.

4 ـ إلى نور الشريف

كلهم يُفضِّلون أحمد زكي، حتى أنت تُفضله على نور الشريف، كلهم ما عداي، وحُجتي أنه يتقمص الشخصيات حتى يبلغ حدَّه الأقصى، أما أنت فتصنع المسافة بينك وبين الشخصية، ما يسمحُ لي بالسُّكنى فيها، كأنك من شيعة بريخت، طاردتك الشائعات والحقائق، فأنت لاعب الكرة، وأنت العاشقُ، وأنت ابن الشيخ جابر العلي الذي بعد موته سترفض حصَّتك من ميراثِه، وأنت ناجي العلي، وهو لعنتك التي ستجعل الأنظمة تحكم بالضياع على حلمكما، حلم العودة، وتحكم عليك بأنك ابن الشيطان، لأن القتلة والمقتولين، جلسوا في بيت العدو، وشاهدوا المباراة معاً وأكلوا الشاورما، فيما هربت أنت إلى الموت، أرجوك دلّني على قبرك وعلى قيامتك، دلني على سواك.

5 ـ إلى أحمد فؤاد نجم

التقينا مراتٍ، لم يكن من الممكن أن نُصبح صديقيْنِ، فأنت الفاجومي والنجم والزجّال فقط، وشِعرك شَعرُ مظاهرات وتحريضٍ، شِعرُ الثورة من الخارج، فكرت أكثر من مرة أن لسانك الفالت يُعوِّض عفة لسان البورجوازية التي أحاطتك برعايتها ويُلبي حاجتها الأكيدة للابتذال، آخر مرة التقينا في المقهى الثقافي كان حولك شاعران وكاتب ومتفرجون، أتت نوّارة ابنتك وأعطتك كتابًا وأشارت إلى شاب ضائعٍ يقفُ بعيدًا، وقالت: إنه يُهديك ديوانه، فأخذته، وبقوة ذراعك رميته، ضحك الشاعران والكاتب والمتفرجون، كانوا سُعداء بفطرتك، عادت نوّارة بالكتاب، وقالت: عيب يا نجم، لكنك كرَّرت الفعل والفطرة، وكرروا الضحك والتفاهة، ساعتها انصرفتُ، وقررتُ إعادة النظر في محبتي لصافيناز كاظم، والتخلص من أسئلتي حولك.

image

6 ـ إلى أنور السادات

العنوان الذي تمنيتُه عنوانا لسيرتك، هو أنور السادات الذي مات مرتين، خاصة أنك تعيشُ الآن حياتك الثانية، في الأولى عشتَ الواقع، وأصبحتَ فجأةً رئيسًا غير مُنتظرٍ، كأن عبد الناصر ادَّخرك لتقومَ بما خشي القيام به، كأنْ تُحاربَ حرب تحريك لا حرب تحرير، ثم توقفها في التوّ حيث انتصرتَ معنويًّا بالعبور، وانهزمتَ فعليًّا بالثغرة، ما أتاح لك أن تنقش حمامة على صدغيْك وتنقلها إلى صَدْغَي الست غولدا، الحقيقة أنك فعلتَ هذا بخوفٍ وأعقبته بنظرياتك السداح مداح، لكنهم قتلوكَ، وحسبنا أنك اختفيتَ، حتى رأيناك تعيش حياتك الثانية، كمُلهمٍ ومثالٍ، تحنو على خلفائك وترشدهم، لكنهم سيهبطون إلى أسفل سافلين، السؤال اللازم الآن هو: متى ستموتُ ثانية ونهائيًّا؟!

7 ـ إلى إحسان عبد القدوس

ظلمناك عندما اعتبرناك روائي المرأة العارية، لكنني الآن أقارنك دائمًا بالسيد محمد حسنين هيكل الذي سانده الداخل الناصري والخارج الخواجاتي ومهارة الاستبداد، فأصبح كبير الكُتّاب، ولكي تتزيَّن مؤسسته ونظامه، أتاها بالكبار الجاهزين، وعلَّقهم في الطابق السادس، ليُكرمهم ويُدجنهم، لكنه لم يُقدِّم موهبة واحدةً جديدةً، مكرم محمد أحمد، هو أبرز عطاياه، والقعيد والغيطاني والأبنودي هم خيرُ مُريديه، والنظام العسكري غايته، أما أنت يا إحسان فقد جعلتَ روز اليوسف معهدًا لتخريج المواهب، أحمد بهاء الدين، وفتحي غانم، والحب، وحجازي الرسام والشاعر، وصلاح عبد الصبور، والديموقراطية، وصلاح جاهين، إلخ إلخ، هذه هي روايتك الكبرى، الآن هل يُمكن أنْ تقبلَ الحياة معنا، أم أنك ستُفضل حضن فاطمة على أحضان الأوباش، وذكرى ابتسامة حنان الشيخ على تكشير العسكر.

8 ـ إلى يوسف السباعي

كنتَ مُراهقًا عندما أهديتَ نبيلة طه محمد علي روايتك بين الأطلال، بغِلافها الذهبي، طبعة الخانجي، عرفتُ في ما بعد أنك الأديبُ الجنرال، وأن ذراعك الحديدية امتدادٌ لذراع الرئيس، يهش بها على غيمة، كنتَ تمنعُ وتمنحُ، وعطاياك لأدباء اليسار كانت المقدمة لإدخالهم الإسطبل، هناك مَن نصحوك: الصواب احتواؤهم، لكن الأفضل حرمانهم، أذكرُ أنك كنتَ طوال الوقتِ الجنرال الروائي، يوم اغتالوك قام رعاياك الشعراء برثائك، لا أنكر بعض الطرافة في (نائب عزرائيل)، وبعض الفن في (السقا مات)، وبعض النوستالجيا في (جنينة ناميش)، وبعض الوسامة والتفاهة في ابتسامتك، لكن إذا كانت البدلة الميري ضيّقة إلا على جسدك فلماذا حشرتنا مع كل رواياتك الثمينة والسمينة تحتها؟

9 ـ إلى نجاة الصغيرة

أعترفُ لكِ بأنني لا أحب البشر الأساطير، أحب البشر البشر، البشر الأحلام، أم كلثوم الأسطورة وأنتِ المرأة والمغنية والحُلم، اكتشفتُ الحب وأنا ألهثُ داخل صوتك، اكتشفتُ الشعرَ وأنا أشتهيكِ، في صباي استعنتُ بكراسة مقياس الرسم علَّني أرسمُ صورتكِ، عندما انتهيتُ منها ووجدتها خاليةً من الروحِ، انطويتُ على نفسي وبكيتُ، ثم طويتُ الصورةَ وعيناي مُبللتان، فرأيتُكِ تحتضنيني، ومنذ تلك اللحظة وأنا أصلّي في غرفتكِ السرية، وأشيد برومانسيتكِ التي هزمت كلاسيكيتي، وفي كل رحلةٍ أضيعُ فيها أصعد سلالمكِ دون أملٍ في الوصولِ إلى سمائك الأعلى، حيث ستُغنين لي وحدي، وحيثُ سيجوزُ لي أن أسألكِ كيف أستطعت الغناء والتجلّي أمام الديكتاتور وزوجته، وهما هما، والخفاء والتخلي أمام أمير عشاقكِ، وأنا أنا.

10 ـ إلى ناجي العلي

هكذا دبَّروا اغتيالك، لأنك تكره الصمتَ، كتب محمود درويش: بيروت خيمتنا الأخيرة، فكتبتَ أنت: محمود خيبتنا الأخيرة، يُقالُ إن محمود اشتكاك، وأمهله عرفات، هكذا دبَّروا اغتيالك، لأنك تكره الصمتَ، قال صاحب الأغاني إن عرفات كان يُصاحب الست رشيدة، ونجيب محفوظ يُصاحبُ أختها فوزية، كأنهما عديلان، فلما تفاقم سوء عرفات كتبت أنت: من سيرأس المنظمة بعد وفاة رشيدة؟ يُقالُ إن عرفات قرَّر ألا يُطيل المهلة، هكذا دبَّروا اغتيالك لأنك تكره الصمت، رأيتَهم يُهرولون إلى هناك حيث القاعات المكيفة، وكنتَ تظن أنهم يجب أنْ يُهرولوا إلى هنا، حيث الخنادق والبنادق، ونسيتَ أن الحُكام كلهم قتلة، أمس واليوم وغدًا، يختلفون فقط في الأسلوب؛ فهل كنتَ تبحث عن الموت؟

(شاعر وكاتب مصري)


عن جريدة السفير اللبنانية