تعلية السور أم تحسين ظروف السجناء؟مقال المصري اليوم

في انتظار من لن يعود
في انتظار من لن يعود

ليس أسوأ من كوارث غرق الفارين من مصر إلا التصريحات والتعليقات التي تعقبها.

وقد تلقيت بمزيد من الأسى، تصريح رئيس الوزراء عقب الكارثة، ورد فعل الوزارة الذي اقتصر على مناقشة التدابير  الأمنية والقانونية لمنع الهجرة. تعليقات الإعلام، من جانبها، اقتصرت  على لوم الضحايا الطماعين، ووسطاء السفر الذين استقرت تسميتهم بـ«سماسرة الموت»!

   هذا ما تفعله الحكومة دائمًا، وهذا اللغو الإعلامي  يتردد مع كل كارثة منذ بدأت هذه الظاهرة، بهدف تبرئة الحكومة، أو الإدارة أو النظام السياسي، حسب التسمية التي يرتضيها كل منا، لكن الحقيقة في مكان آخر.

 لا تتسع المساحة لتعداد أوجه قصور الدولة التي تحمل الشباب على مخاطرة الفرار من مصر. وقد سبق أن قمت باستقصاء الظاهرة خلال عامي ٢٠٠٩ و٢٠١٠ في مصر وإيطاليا، وأصدرت خلاصة عملي في كتاب «العار من الضفتين» الذي صدر عن دار العين في بداية ٢٠١١. وكنت أتصور أنه صرخة موثقة ضد التزييف الممنهج الذي لا هدف له سوى تبرئة النظام من دماء الضحايا، لكن يبدو أنها صرخة ذهبت في واد، كما يقول الكواكبي!

   من الثابت أن الغرقى دائمًا من القرى. والذين يهاجمون الضحايا، لا يعرفون أن الدولة غير موجودة في القرى إلا من خلال مركز الشرطة وعيون الأمن التي لم تمنع انتشار التطرف بين بشر متروكين لمصيرهم بلا مستشفيات، بلا صرف صحي، بلا خدمات ثقافية، وبلا مورد للرزق سوى السفر، بعد ضرب الاقتصاد الريفي عمدًا.

نقطة الانهيار بدأت في منتصف التسعينيات، عندما ألغيت الدورة الزراعية، وانسحبت الحكومة من تنظيم الزراعة وتسلم محصول القطن، ومن رعاية الإنتاج الحيواني وتقديم الأعلاف، في إطار الاحتقار لكل الاقتصاد الصغير وانحيازًا للاقتصاد العقاري والاقتصاد الخدمي.

هذا الانسحاب جعل الأرض عبئًا على مالكيها، فباستثناء الأرز، كل المحاصيل تحقق خسائر اليوم، وكذلك لا يحقق الإنتاج الحيواني أي عائد في ظل غلاء الأعلاف، الناتج بدوره عن ضرب زراعة القطن. في نفس الوقت  توجد في القرى أموال عائدة من السفر، لم يكن أمام هذه الأموال إلا شراء الأرض وبناء بيوت فارهة فوقها، وهذه البيوت تتكفل بخلق جنون السفر في نفوس أجيال جديدة من المراهقين.

الآن، القرى مجرد تجمع عشوائي من السكان يعيش على الفقر المدقع في القرى التي لم يعرف أبناؤها طريق البحر، وعلى الغنى المتبطر في قرى السفر، حيث لا تستمر الزراعة إلا كنوع من الفلكلور، أو من باب الإيمان الديني (عدم رفس النعمة) عند الجيل القديم الذي ينقرض الآن، ومع ذلك تترك الأرض بورًا أحيانًا عندما تتشدد الدولة في منع زراعة الأرز.

هذه الحقائق يعرفها وزراء الزراعة المتتابعون، وبعضهم من أبناء القرى، لكن تقسيم أراضي الصحراء والتلاعب في منحها أهم من الانتباه إلى الأرض القديمة المحتقرة؟. وللحقيقة، فالمشكلة لا تقع عند وزير الزراعة وحده، لكنها مسئولية نظام لم يُغير العقيدة الاقتصادية للدولة التي وضعتها لجنة سياسات الحزب الوطني. ولم يعد الأمر يحتمل هذه اللامبالاة؛ فموت الشباب في عرض البحر هو أحد مظاهر أزمة اقتصادية لن تحل إلا بإعادة الاعتبار إلى الأنشطة الانتاجية، والزراعة في مقدمتها.

بغير هذا؛ فإن كل موجة غارقين ستتبعها موجة أخرى. ولن تفلح تعلية الأسوار في وقف موجات الهجرة إلى الآخرة، ولن تُفلح الشهادات الزور الإعلامية في التغطية على مسئولية الدولة عن هذه المأساة المستمرة.