اقتحمت صمته ذبابة خضراء كبيرة أخذت تطن بإلحاح وهي تدّوم فوق رأسه لتحط على الإطار العتيق للمرآة. تمشت حتى صارت على السطح المصقول. أخذت تترك نفسها للانزلاق، ثم بحركة بهلوانية مرحة تفرد جناحيها لتتوازن مع حركة قوائمها المحمومة للتشبث بالزجاج. تتوقف لحظة لتتأمل الذبابة التي تحاكيها في الجهة الأخرى، وتعاود الحركة.
رغم البهجة الساذجة للذبابة فكر الملازم وحيد في الاحتمالات. المدربون الذين أعدوه للحراسة كانوا يشددون دائما على إحكام قبضة “لا يسمح بتسلل ذبابة”. ولم يفكر ولو مرة واحدة أن يسأل عن خطورة تسلل ذبابة، معتقداً أن ذلك لم يكن إلا نوعاً من المبالغة للتشديد على إجراءات الحماية.
مؤكد أن ذبابة، حتى لو كانت بهذا الحجم غير العادي، ليست شيئاً ذا بال إذا ما ظهرت حول مسكن وزير أو طنَّت فوق موكبه؛ بل ربما حامت حوله وحطت على وجهه من دون خطورة تذكر، لكن تلك البساطة غير واردة عندما يتعلق الأمر بالسيد الرئيس.
قام على أطراف أصابعه إلى المشجب أمام باب الحمام، سحب المنشفة وعاد متسللاً ليصفع وجه المرآة، لكن الذبابة التي تنبهت طارت مغادرة الغرفة. تابع الملازم حركتها البندولية المتصاعدة، عدة أمتار، ثم أعشت الشمس بصره فلم يقدر على تبين وجهتها النهائية.
ولدت في أطراف دماغه فكرة رفع الواقعة بتفاصيلها إلى القيادة، لكنه سرعان ما ذبحها بسونكي القلق؛ فالأمر ليس بهذه السهولة.. ربما كان ظهور الذبابة شأناً تافهاً بحيث تعتبر القيادة إثارته نوعاً من السخرية يستحق العقاب، وربما كان خطيراً، وفي هذه الحالة سيعرض نفسه لعقاب أشد لجهله بالجهة التي انسحبت إليها. فكر في تجاهل الواقعة، لكن ذلك قد يكون أسوأ؛ فمن المحتمل أن تكون الذبابة مرصودة ويؤدي صمته إلى اتهامه بالإهمال، وربما التواطؤ الموجب للإعدام.
نضح جلده عرقاً بارداً، وأحس بأطرافه تتداعى تحت ثقل الوجل. ولم ينقذه سوى صوت النفير وحمحمة الخيل. هب واقفاً وقد دبت القوة في بدنه، وفي قفزة واحدة كان خارج غرفته مهرولاً باتجاه حصانه القادم وسط موجة الخيل يتبعها زبد الجند بأسلحتهم وأعلامهم المرفرفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقطع من رواية “الحارس”