كرنفال الرئيس وعبرة الموت التي لا تنفع الأحياء

دورة رئاسية بعد أخرى، يثبت الناخب الأمريكي أنه الأذكى بين الناخبين في العالم؛ فهو يستطيع بسهولة التفريق بين المرشح الجمهوري والديمقراطي، حتى عندما يكون المرشحان أبيضين.

تمكن الأمريكيون من اختيار الرئيس المناسب دائمًا، قبل أن يشك مخرج الاستعراض الانتخابي في قدراتهم الذهنية ويدفع بمرشح أسمر. تغيير لا ضرورة له، تم الإقدام عليه من باب الاحتياط في الانتخابات الماضية.

وعندما تنتهي ولاية أوباما الثانية بتأكيد التطابق التام بين الحزبين، ربما يدفع الديمقراطيون بامرأة في المرة القادمة ليكون الاختلاف بينًا؛ فالمرأة امرأة والرجل رجل. حكمة ألواح الكتاب الأخضر المدفونة في مكان ما بالصحراء الليبية، يعرفها المتلاعبون بالطقس الديمقراطي أكثر مما عرفها العقيد الفقيد القذافي عندما اعتبرها اكتشافه الخاص.

صانع الاستعراض الأمريكي يعرف الناخبين، وعلم أن فيهم ضعفًا؛ فهناك بعض حركات الاحتجاج المبهمة ضد عدو مبهم، ولا يجب أن تتفاقم حالة الأمريكيين ويبدأوا في التمرد على العملية كلها. وإذا كان بوسع أعضاء ‘احتلوا وول ستريت’ إنكار سواد أوباما، فلن يكون بمقدورهم إنكار أنوثة المرأة.

‘ ‘ ‘

بسقوط الاتحاد السوفييتي فقدت الرأسمالية أهم ركائزها: الشيوعية؛ العدو الذي جعلها تدخل القرن العشرين بحياء فقدته بإعلان انهيار المنظومة الشرقية.

كل الامتيازات التي حصل عليها العمال في أوروبا الغربية وأمريكا كانت تأليفًا للقلوب لمنع انتشار نيران الشيوعية. وعلى الرغم من السرعة التي اختلقت بها الرأسمالية العدو البديل، إلا أن التطرف الإسلامي لم يعمل بالكفاءة ذاتها، لم يكن العدو المناسب لسد الفراغ الذي تركته الشيوعية.

ضمنت القاعدة في أفغانستان وبلاد الرافدين استمرار تشغيل مصانع السلاح بطاقتها القصوى، لكنها لم تكن فعالة بشأن أنسنة الرأسمالية، لأن الإسلام السياسي ـ الخشن منه والناعم ـ ليس ضد الرأسمالية، وليس للفقير فيه شيء على الغني إلا واجب العطف والإحسان، ولهذا فإن الرأسمالية التي تطارد النوع الخشن في الكهوف، هي نفسها التي عملت على تمكين الإسلام الأقل خشونة فوق كراسي الحكم، وكيلاً بديلاً للديكتاتور العسكري.

‘ ‘ ‘

تؤمن الرأسمالية بقدراتها، بقدر ما آمنت الشيوعية بأحلامها، لكن الموت لا يشكل أية عبرة للأحياء. 

ولا يتجلى غرور الرأسمالية في شيء بقدر ما يتجلى في تطابق السياسات بين الحزبين الأمريكيين الذي حول الانتخابات إلى استعراض اجتماعي تافه، لا يقدم إلا المزيد من الأعباء للناخب الأمريكي المدعو إلى دفع فواتير المؤتمرات الكبرى ومناظرات التليفزيون.

مهرجان يأكل عامًا من أصل أربعة أعوام يقضيها الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض. وكل ما يحققه المهرجان هو دروس البلاغة التي تتحول إلى ورشة تدريبية للمرشحين الصغار في الجامعات والبلديات والولايات، وهؤلاء سيخرج منهم بعد ذلك المرشحون الكبار الذين ستنتفخ أوداجهم ذات يوم وهم ينطقون من البلعوم اسم أمريكا بوصفها أمة يتعهدون برفعها عاليًا فوق جثث الأمم.

لكن اللعبة البلاغية السنوية لن تنتهي دون إيذاء اللغة. وقريبًا، قريبًا جدًا، سيحدث للإنجليزية ما حدث للعربية، وسيمضي وقت قد يطول وقد يقصر قبل أن تدرك الأمة الأمريكية ما أدركته الأمة العربية من دمار اللغة، حيث يتحدث الرئيس عن الإصلاح وهو يعني المجزرة.

‘ ‘ ‘

‘الرئيس أوباما يعدكم بترويض الرياح وصد أمواج المحيط، لكنني أعدكم بما أستطيع: أن أساعدكم أنتم وأسركم’. هكذا يسدد الملاكم ميت رومني في حلبة البلاغة ضربة يتصورها قاضية. يتطلع إلى أوباما المكوم تحت قدمية، فلا يكون من الأخير إلا أن يتماسك ويرد: ‘الجمهوريون يعرفون كل أوجه القصور، لكن ليس لديهم من الوقت ما يكفي لكي يخبرونا بالحل’.

تبدو لكمة أوباما أقوى، يضع منافسه أمام مسئوليته لشرح حدود استطاعته التي سيساعد بها الأمريكيين. وأما عن السخرية، الرافعة الأقوى في أي خطاب جماهيري؛ فهي كبيرة وفائضة عند رومني إلى حد قد يدفع البعض إلى عدم أخذها على محمل الجد. سخرية أوباما المثقف أعمق، لكنه ـ لسوء الحظ ـ استدعاها من نعوم تشومسكي عندما سخر من استعراضات الانتخابات: ‘الناخب الأمريكي يختار بناء على ما يقوله التليفزيون، وليس لديه من الوقت ما يكفي لكي يسأل جاره إن كان ما يقوله التليفزيون صحيحًا أم لا’!

‘ ‘ ‘

بالطبع هناك هوامش طفيفة يتحرك فيها الرئيس بما لا يمس البنية الرأسمالية في صميمها. في الداخل يستند أوباما على تحسين التأمين الصحي، والمشروع حصد من المعارضين بقدر ما حاز من المؤيدين، وأما الخيارات الأساسية للرأسمالية في الخارج فلم يستطع المس بها خلال ولايته المنقضية.

دخل أوباما السباق مستندًا على اغتيال ابن لادن، وهو عمل يليق بالجمهوريين، كما وضع حصة مساوية لحصة رومني في صندوق نذور الشرق الأوسط: إسرائيل. منحها حق إقامة عاصمتها بالقدس.

لم يبق من خيارات لحسم المعركة سوى الاستعراض الاجتماعي السنوي. خطاب السيدة الأولى، وخطاب المرشحة سيدة أولى أهم من خطاب السيد. حماسها لزوجها يحسم نتيجة المباراة. هي الشخص الوحيد الذي يعرف قدرات المرشح بدقة. وسعادة الأسرة شرط أساسي لسعادة الشعب. لا أمل في سباق الرئاسة لمرشح منفصل أو متزوج لا تلمع عينا زوجته بالغبطة. قد يكون المرشح للمرة الأولى أكثر حظًا، لأن الثلاثمائة مليون أمريكي عرفوا أوباما على مدار أربع سنوات، لكن الناخب ليس لديه من الذاكرة ما يكفي ليتذكر هل أبلى الرئيس حسنًا أم لا. لهذا يبقى تقييم ميشيل مهمًا، ووجود الطفلتين في الكادر إشارة خصوبة لا تخطئها عين الناخب اللبيب.

——————————————

* هذا المقال نشرته في القدس العربي بتاريخ 2012-09-07