صارت عيني أفضل.
ولن أدعك تشمتين في شيخك المتهدم! يبدو أن المشكلة كانت في التعرض للشمس بعد مدة طويلة من الانقطاع.
سأواصل ترتيب كتبي المتراكمة بالطريقة نفسها، أو أتركها لك عندما تأتين لتفرزينها بطريقتك، لكنك ستحتاجين عمراً آخر. أما لو ضمنت لي عمر سلحفاة، فسأعدك بأن أكون أكثر تأنياً. ومع ذلك ليس في الحكم على كتاب من فقرة، أو صفحة أي تسرع. إذا أنهيت الصفحة الأولى من دون متعة أو من دون الحصول على إضافة معرفية، فلا يمكن أن تتوقعي وجودهما فيما بعد، إنها بمثابة لحظة إقلاع، ولا يمكن لطيار لايجيد الإقلاع أن يحلق بسلام في الجو.
أقول لك ما هو أكثر؟! لقد استغرقتني الإهداءات الشخصية، في قراءات الأمس. وكنت أحكم من الإهداء، ثم أجرب القراءة، ولم يحدث أن اضطررت إلى تغيير حكمي في مرة واحدة.
يكتب أحدهم باطمئنان: “عزيزي … أعدك بثلاثمائة صفحة من المتعة”. ولا يشبه هذا الإهداء المتنفج إلا نقيضه المرسوم بحروف متضرعة: “أرجو أن تعجبك هذه المحاولة المتواضعة”.
في الحالتين بإمكانك التأكد من أن الكاتب عاد من رحلته دون أن يعثر على السر. وليس عليك عندما تمسكين بأحد هذه الإهداءات المتطرفة إلا تدبير مكان في مدفن لائق، دون أدنى فضول أو تأنيب ضمير.
الإهداء، سواء كان مطبوعاً موثقاً لصالح شخص بعينه، أو كان مكتوباً بخط اليد على نسخة وحيدة، هو أخطر نصوص الكتاب. وبعض من يرتكبون حماقة كتابة الكتب يعرفون ذلك ويحجمون عن كتابة الإهداء؛ يتحاشون ما أمكنهم هذه المسئولية الصعبة. وإن فعلوا مجبرين تتعثر كلماتهم في أذيالها، وتتأرجح وتراوغ بين الإحساس بالنقص والتعالي.
داخل المبدع ليس ثمة تواضع العلماء، ولا اطمئنانهم؛ بل حركة بندولية بين اليقين واللايقين..أرجحة مدوخة بين هشاشة البشري وصلابة الإلهي.
من الهشاشة يولد التردد والخوف من النص، والأرق المعذب والحافز على الإجادة في الحين نفسه. ذلك الأرق الذي بلغ مداه مع فرانز كافكا فكاد يحرمنا من “المحاكمة” وبمعنى آخر كاد أن يترك عمارة القرن العشرين الروائية مهددة بالانهيار، لو لم يقيض القدر من ينشر الرواية، ليكتسب هذا الفن واحداً من أمتن أعمدته.
الهشاشة واللايقين هي روح الرواية بالذات. وعلى العكس من الشعر الذي يحتاج إلى قدر أكبر من صلابة الإلهي، لايحتاج الروائي منها إلا بمقدار ما يحتاج الإدام إلى الملح، فالقليل منها يعينه على الاستمرار، والكثير يجعل الروائي يدخل على الكتابة بقلب ميت، متصوراً أن كل ما يخطه قلمه لم يأت به الأوائل، ثم يواصل الاندفاع في غيه، فيكتب في النهاية إهداء متنفجاً يعد فيه بالمتعة الكاملة!
داخل هذه الصلابة بالذات، تختبيء مصارع الكُتّاب، ليس فقط أولئك المحرومون من فردوس الرواية منذ البداية، بل كثير ممن بدأوا حياتهم الروائية متدثرين بحكمة اللايقين وانتهوا مطمئنين ومستنيمين لنجاح صادفوه مرة أوغير مرة.
وفي مقام الكتابة يكون المجازي أقوى من الحقيقي. وتصبح “مصارع” بمعنى الموت الرمزي أكثر قسوة من القتل الواقعي الذي أصاب ابن المقفع أوالحلاج، فذلك اللون الأخير من المصارع يضمن لصاحبه الخلود، بل إن فرض هذا المصير على كاتب هو بحد ذاته انتخاب مبكر لنصه وترشيح للخلود لايخطيء؛ فالطغاة هم أكثر نقاد الأدب حصافة.
والكاتب الذي يدفع حياته ثمناً لكتاب، لا يدفعه فقط لأنه ألفه، بل لأنه ألفه بامتياز يضمن خلوده. وهذا عزاء جيد عن موت قسري يحدث لمرة واحدة، مهما قيل عن تقطيع أوصال ابن المقفع أوعن مدة احتضار الحلاج على الصليب. أما الطرد من جنة الكتابة، دون مجد خاص ودون عزاء؛ فهو الموت الأكثر إيلاماً حيث تنسحب الروح كتاباً بعد آخر، ولا يعود هناك من يكترث بحياة أو موت الكاتب الذي لم يع درس سرفانتس.
لم يمنح سرفانتس الأجيال اللاحقة من الروائيين الطريق إلى الرواية فقط؛ بل وضع أيضاً الخلطة النفسية للمبدع، خلطة التواضع المراوغ، الذي يختلف تماماً عن التواضع الكامل لدى العلماء.
ويستطيع قاريء مقدمة سرفانتس لـ “دون كيخوت” بقليل من التدقيق أن يكتشف هذا المزيج العجيب من التواضع والفخر والسخرية من الآخرين؛ فهو في البداية يعتذر للقاريء لأنه كان يريد لكتابه أن يكون على أكبر درجة يمكن تخيلها في الفطنة، لكنه لم يستطع أن يخالف نظام الطبيعة الذي يقضيي بأن يلد الناقص شبيهه. ولا يمكن إلا أن نشك في هذا التواضع الذي يطل التيه والمزاح من تحته!
لا نتقدم قليلاً في نص الاستهلال حتى نجده، بتيه أكبر، يؤكد للقاريء أنه لن يطلب منه “والدمعة في عينه” أن يتجاوز عما يراه من نقص في كتابه، ويذكره بأنه في بيته بكامل مشيئته الحرة كملك في أملاكه، ليس هناك ما يجبره على القراءة، وبالتالي فهو في حل من كل احترام واجب!
ويمضي سرفانتس في مقدمته، ويصارح القاريء، بأنه وإن كان قد أنفق بعض الجهد في تأليف القصة، فما من عناء يساوي عناء كتابة المقدمة. وما مصدر العناء إذا ما تأملنا هذا النص البديع جداً إلا من المراوحة بين الخوف والفخر دون أن يمنحنا يقيناً يريحنا، لأن الكاتب بالأساس لايمتلك هذا اليقين.
ويواصل النص الملغم بالسخرية بث رسائله المتعارضة من جملة إلى أخرى؛ فيشرح كيف أراد أن يقدم للقاريء القصة عارية دون زخرف، ثم يعود ليتساءل عما عساه يقول الجمهور، وهو يراه عائداً بعد سنوات بكتاب “جاف مثل الحلفاء، بعيد عن الإبداع، باهت الأسلوب، فقير المفاهيم، وخال من كل تبحر وحكمة، ومن دون هوامش ولا ملاحظات في نهاية الكتاب، كما أرى في الكتب الأخرى، المليئة بأحكام أرسطو وأفلاطون وكل حشد الفلاسفة” ثم يعود ليؤكد أن هناك من نصحه بأن يرصع نصه بأسماء الفلاسفة وينسخ مراجع من أي كتاب آخر ويذيل بها كتابه بترتيبها الأبجدي ليعطيه وزنا واحتراماً، مؤكداً له أن أحداً لن ينتبه إلى ذلك!
وهنا لا يبدو سرفانتس مزهواً فقط، بل إنه ينال من الآخرين، كتاباً وقراءً. ويضع اللبنة الأولى في جدار العداء بين المبدعين والكتابة الأكاديمية. ولا يكتفي بالسخرية من هذا الضرب من الكتابة، بل يجعل صديقه يعود ليؤكد له أن نصه ليس بحاجة إلى شيء من خارجه، لأنه في كليته هجاء لكتب الفروسية التي لم تخطر ببال أرسطو، وليس من معنى لهذا إلا أنه يعتبر نفسه مميزاً، فهو يبني على غير مثال قصة سهلة “تضحك المحزون وتزيد المبتسم ابتساماً، فلا يغتاظ البسيط وتعجب الحصيف بالإبداع، لا يزدريها البليغ ولا يمتنع الحكيم عن مدحها”.
ليس هناك من هو أكثر زهواً من هذا الذي يشعر بأنه وضع كتاباً للناس كافة، لكنه يتخفى في وضع هذا المديح على لسان صديقه، بوصفه نصيحة يجب أن يتبعها في تأليف الكتاب، ناسياً أنه صارحنا من قبل بأنه أقدم على كتابة هذا النص الأصعب بعد أن انتهى من كتابة الرواية. وكأنه قد فوض السخرية بهدم التواضع، وكلف الصديق بترويض الفخر.
هل تذكرين ماذا كتبت لي في إهدائك الأول؟ لم تكن الكلمات مصدر حبي له، بل إمساكك بالقلم، ونظرتك إليّ بين كلمة وأخرى، وكأنك تستطلعين وقعها عندي. لحظتها طويت الكتاب وأنا موقن بأنك أجمل إهداء تلقيته في حياتي من المؤلف كلي القدرة.