لأن الفصول لا تتغير في البرج، كان يرتدي الربيع في ألوان المايوه ويصعد إلى بركة السباحة.
البركة في الطابق السادس والعشرين، تغطيها قبة زجاجية. القبة مشدودة بدعامات من أقواس معدنية مائلة تنطلق من القاعدة بانسياب موجة لتتجمع مع غيرها في قمة يتوجها من الخارج صاعق يومض ليلاً لتحذير الطائرات في تلك الجزيرة الصغيرة.
القبة الشفافة بدعاماتها المعدنية مع الصاعق تشبه نهدًا من نور تمردت حلمته البارزة على حمالة من الخيوط تنتمي إلى موجة من الملابس الداخلية قلبت وظيفة هذه القطع الثمينة؛ فصارت تختفي في الأعضاء بدلاً من أن تخفيها.
بركة السباحة تحت القبة تشبه برك السباحة في الأندية الرياضية بالقدر الذي يشبه به كيلوت حداثي سروال القرن الثامن عشر؛ بركة رمزية تتخذ شكل الهلال، ليس هلالاً منتظمًا لكنه مراوغ، ملتف كالأهِلة الداعمة للنهد الزجاجي. يبدو مسطح الماء أقرب إلى ثمرة العوجا إذا ما نظر إليه رجل، وبعين طفل يمكن اعتباره ثمرة أكبر؛ حبة مانجو سنارة، توأم موز من إصبعين ملتصقين، وربما هلالاً منتفخًا من وسطه، كالذي يبدو في رسوم الأطفال، عندما يتعمد الرسام أن يحول الهلال إنسانًا ينظر إلى طفل القصة.
وسط البركة الهلالية وعلى أطرافها تتوزع أربعة أعمدة ضخمة مكسوة بالفسيفساء تنتهي قبل أن تلمس قاعدة القبة. ولأنها بلا وظيفة ظاهرة، ستبدو الأعمدة الأربعة منظورًا إليها بعين طفل كما لو كانت موجودة هكذا منذ الأزل، مثل الله والأب والأم والأخوة الكبار والشوارع والأسِرّة والكراسي والبحر والطيور. وفي عين بالغ اكتشف متعة ما تسميه المسيحية “اللمس الآثم” فهي لم تقم هنا إلا بفضل تسامح الحجر مع المتطلعين إلى الإثم، وفي عين محارب يريد أن يصيد ولا يُصاد فالأعمدة ليست سوى جذوع أشجار تساعد على نصب الكمائن.
النظرة للأعمدة ذاتها ستختلف بالتأكيد؛ لو صدرت عن جسد فارق زمان المطاردة ولم يدخل إلى السن التي يفقد فيها القدرة على الاحتشام. طبقًا لعين كهذه، لا حيرة تسببها أعمدة أربعة تبدو ظاهريًا بلا وظيفة معمارية؛ فهي موزعة بدقة متناهية للحفاظ على ما يسميه أبناء ذلك العمر وبناته: الخصوصية.
قد يكون أو لا يكون للبركة العوجاء والقبة النهد والأعمدة الأربعة أية صلة بالمصادفة التي جمعته بامرأة تلهو مع ابنها في حراسة زوجها.
المرأة السمراء، التي وجدت نفسها وحيدة بين ثلاثة رجال، لها شعر أسمر طويل، فم رفيع بشفتين نحيلتين لا تثيران أية شبهة، أنف مدبب مقبول، ولها جسد بليونة ثماثيل الإغريق، يرسل بإشارات بهجته الذاتية إلى البعيد؛ فلا هو بالجسد المضطهد بتنحيف عنيف يضعه في خدمة الآخرين، ولا هو بالجسد المُعضّل بحدة طاردة ولا بالجسد المترهل الذي لا نفع فيه لصاحبته أو لغيرها. يبدو أنها لا تعاني إلا من مشكلة واحدة؛ فهي تبدو أصغر من زوجها، وبالطبع أكبر من ابنها.
الزوج الأكثر سمرة استوطن الصلع وسط رأسه، دائرة صغيرة ليس بوسعها وحدها أن تكون عقبة على أي طريق اختار الرجل أن يسلك. مشكلته الأسوأ أنه سمين، ليس لديه انتفاخ التمثال الأكرش لبوذا، لكن تتدلى على خاصرتيه طيتان من لحم مثل زنّار، بينما يكاد فخذاه يلتصقان.
الولد، ابن الرابعة، له لون ورشاقة المرأة التي غالبًا لم تتعرض لسؤال في سوبر ماركت أو مستشفى أو حديقة من نوع: هل هذا طفلك؟
من المؤكد أنها غفلت عنه في أماكن عامة كما تغفل كل الأمهات، ومن المؤكد أن أحدًا ما كان يسحبه من يده في كل مرة ويسلمه إليها، مع توصية لطيفة بالانتباه في المرة القادمة.
يبدو الولد نسخة منها، وكأنها أنجبته وحدها، أو كأنه القالب التجريبي المصغر الذي صبه المثّال قبل أن ينحت التمثال الأصلي. وسواء أدرك الولد هذا التماثل أو اكتشف للتو متعة اللمس الآثم؛ فقد كان ملتصقًا بها كتوأم أصغر. تسبح وهو فوق كتفيها مطوقًا عنقها. تبدو مثل بطة تعلم فرخها العوم. تنزلق منه خلسة مثلما تفعل البطة لتجبر الفرخ على مواجهة الماء. وتتوقف لتستريح، لكنه لا يتركها، يستدير ويحتضنها من الأمام ويقبِّل رقبتها وصدرها في هجوم مرح. الزوج الذي ترك نفسه لمد وجزر الماء يؤرجحه خلف عمود من الأربعة التي قد تكون أو لا تكون لها وظيفة، يرقب ألعاب المرأة والغلام بسكينة. لا تنم ملامحه عن غيرة ولا عن رضى.
لا صوت في المكان إلا صياحٌ مبهمٌ للصبي، مضفرًا مع جديلتين من أصوات الماء، إحداهما وشيش تَسرُبِ الفائض من حافة المسبح عبر الصّفايات المحيطة بالهلال، والأخرى طشيش صاخب تصنعه ضربات ساقي المرأة القويتين. هذه الخلطة الصوتية تصعد إلى القبة وتدوِّم تحتها لتسقط وقد صارت أكثر إبهامًا. بالنسبة لأذن اعتادت الإنصات إلى الطبيعة في الخريف سيبدو الصوت حفيف ورق شجر يتطاير، وبالنسبة لأذن مولعة بالضجيج قد تبدو تلك الضفيرة الصوتية مثل ضفيرة أخرى يمكن ملاحظتها في الكنائس التي يقال لها تاريخية، حيث ينجدل صوت الكاهن مع صرخات الإعجاب بكل اللغات مع توجيهات السائحين لمرافقيهم بشأن الزاوية المناسبة للصورة التذكارية.
رأها تكمن وراء عمود مخدرة من قبلات طفلها أو دائخة من السباحة في بركة صغيرة تجبرها على الدوران في لحظات. اشتبكت نظرتاهما لحظة قبل أن يتوجه إلى أقرب شيزلونج، ويستلقي فوقه مغطيًا جذعه بالمنشفة. رأت بشكل أوضح انسياب ساقيه الطويلتين كساقيها. من خلف العمود تسترق نظرة لزوجها لتتأكد أنه لا يرى رعشة جلدها تحت انقضاضات نظرة رجل متناوم له لون بشرتها، وفي مثل سنها.
لم يطل تناومه. ألقى بنفسه في الماء بجسد متباه كتماثيل ميكل أنجلو، والتقت مرة أخرى نظرته بنظرتها. صنع احتكاك العيون شرارة مثل شرارة الحلمة التي تنبض فوق القبة. انتفض الزوج كمن يستشعر برودة الماء للمرة الأولى، فنجل عينيه كالسعيد بصحو أنقذه من كابوس، وبهدوء من يتلمس الصحو سبح باتجاه المرأة والغلام.
من «البحر خلف الستائر».