بينما أُقلِّب قنوات التليفزيون السبت الماضي، اهتديت إلى حوار مع رئيس الاتحاد التونسي للشغل حسين العباسي تبثه قناة فرانس ٢٤ مع التليفزيون التونسي. تسمرت أمام الشاشة لأرى الرجل الذي يقف على رأس أهم اتحاد نقابات في العالم العربي، ولا مبالغة إن قلنا في العالم الآن، فهذا الاتحاد هو صاحب اليد العليا في إنقاذ تونس من أزمة سياسية طاحنة أعقبت اغتيال المعارض شكري بلعيد والنائب محمد البراهمي، فهو الذي بادر بالدعوة للحوار، ومد يدة لثلاث مؤسسات مدنية أخرى هي الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين.
كانت القنوات السياسية قد انسدت في أكتوبر ٢٠١٣، لكن هذه المؤسسات المدنية فتحت طريق المستقبل، وقد عرفت اختصارًا بـ «الرباعية» وفازت بجائزة نوبل للسلام، واعتقد محلل استراتيجي مصري أن هذه «الرباعية» سيدة تونسية، وفي هذا الجهل يكمن الفرق بين السير الحسن للربيع التونسي والمشي البطَّال للخريف المصري!
عودة إلى حسين العباسي في حواره التليفزيوني، الذي شدني إلى مصر، مثلما أفعل كلما زرت مدينة أجنبية ورأيت نظافتها ونظامها، كنت موزعًا بين الإعجاب بالرجل الصلب ذي المنطق المتماسك، وبين عقد المقارنة بين اتحاد الشغل في تونس واتحاد العمال في مصر.
كان الحوار عاصفًا، يشبه المواجهة حول الإضرابات العمالية في تونس هذه الأيام، ومسئولية اتحاد الشغل عن هذا الوضع الذي قد يُعطل الاستثمار، لكن الرجل لم يشعر أنه في موضع دفاع، أو أن عليه أن يرضخ للابتزاز الوطني والرضى بمقولات «دع العربة تسير».
قال: نعم البلاد في أزمة، وأنا مع هدنة اجتماعية، لكن ليس على حساب الفقراء، ليتحمل الآخرون مسئولياتهم، ولتقم السلطة بملاحقة المتهربين من الضرائب، وبعد ذلك سيكون عمال تونس مستعدين لتحمل الباقي من قوتهم.
تونس، هذا البلد العربي الصغير كان موازيًا لنا في النهضة الثقافية الحديثة منذ بدايات القرن التاسع عشر، كذلك فإن تنظيماته العمالية قديمة، تعود إلى فترة شيوخ الحرف التي تطورت بعد ذلك إلى نقابات. وتأسس اتحاد الشغل التونسي رسميًا عام ١٩٤٦، بعد أربع سنوات فقط من اعتراف الحكومة في مصر باتحاد النقابات العمالية.
وقد راح الرئيس الأول لاتحاد الشغل شهيدًا، واستمر نضال الاتحاد ضد الاحتلال الفرنسي متوازيًا مع نضال العمال المصريين ضد الانجليز والملك، ولكن الاختلاف بدأ بعد الاستقلال!
داس الحاكم (الوطني) التونسي المجتمع المدني والنقابات ولكن قدمه لم تكن في ثقل قدم الحاكم (الوطني) في مصر. لم تُدهس الروح العمالية التونسية، ولم تفسد عظامها، ولم ينخر السرطان في النخاع. اضطر اتحاد الشغل إلى بعض أعمال التأييد، التي تمنع الصدام مع السلطة، لكن النقابيين لم يتحولوا إلى مجرد أيادٍ تصفق للرئيس وحناجر ترتفع ابتهالاً بطلب المنحة في نهاية خطاب الرئيس يوم عيد العمال، دون أن تجرؤ على الارتفاع احتجاجًا في أي من أيام السنة.
ومن العيب ـ علميًا ـ الحديث عن فساد بالفطرة يسكن الروح المصرية، لكن القلاع الصناعية الكبيرة الجديدة والمؤممة، خلقت معها منظومة الكذب الانتخابية التي احترفها بعض العمال، ليودعوا حياة حياة الخشونة، ويرتدون ربطات العنق، ويستمتعوا بالمكافآت، حتى أصبحوا عبئًا على مصانعهم ومؤسساتهم، يؤيدون كل فساد، وكل عصف بحقوق العمال، ويستخدمون لدجين زملائهم، وتحقيق الأمان للسلطة ورأس المال، وفوق هذا القيح المتناثر في المؤسسات تتمدد جثة الاتحاد العام للعمال!
في لحظات الأسى أمام التليفزيون، سافرت في الزمن إلى الوراء، وفكرت: ماذا لو كان لدينا اتحاد شغل حقيقي، أعفانا من الصدام في لحظة العناد الإخوانية التي ترتب عليها كل ما جاء بعدها من مساوئ، أقلها مظلومية الإخوان!
للأسف الواقع ليس كالأحلام، واتحادا الشغل المصري (الأساسي والمنشق عليه ) ليسا كالاتحاد التونسي، فقد فسد العظم!