من أعلى مشاهد الاحتجاج رمزية، كان مشهد عشرة آلاف شاب ارتدوا الأسود وجلسوا على كورنيش البحر في الإسكندرية، وقد أعطوا ظهرهم لمصر ووجههم صوب البحر. كان ذلك تعبيرًا عن رفضهم للأوضاع القائمة في مصر وتطلعًا نحو حياة أخرى، توجد هناك على الشاطئ الآخر. كان ذلك المشهد احتجاجًا على مقتل الشاب خالد سعيد في يوليو 2010 الذي صار أيقونة الثورة في 25 يناير 2011.
البحر؛ أي بحر، يستدعي التفكير في “آخر” قريب. لا يتطلع الإنسان إلى البحر من جهته إلا ويفكر في البشر الذين يعيشون على الشاطئ الآخر. ولهذا فسكان المدن الساحلية هم الأكثر انفتاحًا وتقبلاً لفكرة التعدد والتجاور الحضاري.
والبحر المتوسط حالة خاصة من بين كل البحار؛ فهو يشبه قربة الماء التي تحكمها فوهتان: في الغرب مضيق جبل طارق، الذي يحمي البحر من اندفاع مياه المحيط ومن الشرق فوهة مضيق البوسفور التي تضع الفاصل بينه وبين البحر الأسود. هذا يجعل المتوسط أقرب إلى بحيرة صافية ويجعل الملاحة فيه آمنة أكثر منها في أي بحر آخر.
وعند الفوهتان (جبل طارق والبوسفور) تتكثف علاقة الحب والكراهية. في الغرب توجد إسبانيا التي لم تغفر الاحتلال العربي، حتى تمكن فرديناند وإيزابيلا من طرد العرب من الأندلس؛ فكان هذا الحدث حزن العربي الممتد حتى اليوم. عضة القلب التي يستشعرها كل زائر عربي لقصر الحمراء. وعلى المضيق الشرقي تقف القسطنطينية التي مدت حكم بيزنطة على جنوب المتوسط ، ثم صارت هي نفسها فيما بعد اسطنبول التي مدت حكم الأتراك المسلمين على الممالك الأوروبية، بكل ما تركته الإمبراطورية العثمانية من جراح عانى منها سكان جنوب وشمال المتوسط.
لكن هذا البحر لم يكن ساحة للحرب فقط؛ فثمة استراحات حضارية طويلة جعلت التبادل الثقافي ممكنًا، بل وفي أثناء الغزو كان تبادل العشق وعلاقات الزواج بين الأرستقراطيات الملكية ممكنًا؛ حيث اختلط الهوى بالسياسة وجرت دماء مشتركة في شرايين مواليد كانوا ثمرات الحب بين الشاطئين.
ولم يكن أحد الشاطئين عالة على الآخر؛ بل كان لدى كل من سكان الشمال والجنوب ما يمكن أن يتبادلونه؛ فدفء مناخ هذا الحوض، وإشراقة الشمس على مدار العام، جعل الحضارات تنبثق بوقت متقارب في المدن المتناثرة شماله وجنوبه حوالي الألف الثالثة قبل الميلاد.
سافرت الأساطير في الاتجاهين بسهولة تامة، وكان مجمع الآلهة اليوناني استنساخًا من الهيراركية المصرية للآلهة، لكن هذا التبادل لم يستمر على هذا النحو من السهولة.
ولدت في الجنوب ثلاث ديانات كبرى، كانت أكثر من حاجة الضفة الشمالية. تبنت أوروبا المسيحية، وظلت في حالة من الريبة ضد اليهودية والإسلام قرونًا طويلة؛ واليوم يقف الإسلام وحده محل ريبة من أوروبا.
ربما كانت أسعد أزمنة المتوسط هي أزمنة الدول المدن؛ حيث كانت صقلية أقرب إلى الإسكندرية منها إلى الشمال الإيطالي، وحيث كانت بيبلوس Byblos التي أعطت اسمها للإنجيل (جُبيِّل الآن ـ لبنان) أقرب إلى كريت منها إلى بغداد. في تلك الأزمنة السعيدة لم تكن هناك هوية تعلو على الهوية المتوسطية، أما في أزمنة الإمبراطوريات الكبرى فكانت المدن المتوسطية تتباعد. يتزايد انتماء مدن شمال المتوسط لصالح عمقها الأوروبي المتجمد، مقابل تزايد انتماء مدن جنوب المتوسط إلى عمقها الصحراوي الملتهب. وتم استغلال الدين كقناع روحي للعبة الغزو؛ فكان الغزو العربي لأوروبا باسم نشر الإسلام، وكانت حملات الصليبية من أوروبا على الجنوب باسم المسيحية لتخليص قبر المسيح من أهله الذين أنجبوه!
لكن فترة الاستعمار الأوروبي الحديث (القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين) لم تثر الكراهية التي أثارتها الحروب الصليبية أو الكراهية التي يثيرها الإرهاب الإسلامي اليوم.
كان الاستعمار الأوروبي أكثر وضوحًا في الاعتراف بأهدافه الحقيقية. ورغم ما فعله الاحتلال ببلادهم لم يعتبر سكان جنوب المتوسط أوروبا كتلة واحدة يناصبونها العداء، بل يبحثون عن التناقضات بين دولة استعمارية وأخرى ليعززوا سعيهم إلى الحرية؛ فكان الرد المصري على الاحتلال الإنجليزي هو الإقبال على التعليم الفرنسي، واستنباط القانون المصري من التشريعات الفرنسية. وفي ظل الاحتلال يكتب طه حسين عميد الأدب العربي عام 1938 كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” الذي يعلن فيه صراحة أن سبيل التقدم هو تطبيق النظم التعليمية الأوروبية في مصر.
وفي ذلك الزمان كانت الإسكندرية مكانًا لكثير من المبدعين من أصول يونانية وإيطالية أشهرهم قسطنطين كفافيس وجوزيبي أونجاريتي.
وكان من الممكن أن تتحسن حالة المواطنة المتوسطية في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد رحيل الاستعمار الأوروبي، لكن للأسف أخذ الشاطئان في التباعد، لأن البحر المتوسط لم يعد سيد قراره، بل أصبحت مصائره طوال فترة الحرب الباردة تُصنع في موسكو وواشنطن المدينتان البعيدتان اللتان لا تعرفان معنى المتوسط. وإن كانت موسكو قد تركت لواشنطن الانفراد بالعالم على مدى عقدين ونصف فقد عادت بقوة لكي تشارك مجددًا في صنع مصير مظلم لحوض الشمس المشرقة.
التطلع العربي نحو الحرية الذي بدأ عام 2011 تم تحويله إلى إرهاب مسعور بدعم واضح من واشنطن وموسكو، وبعد خمس سنوات أصبح المواطن المتوسطي إما لاجئ أو مُستقبل للجوء، بكل ما يترتب على ذلك من ريبة وكراهية وسوء فهم.
ومع كل اللغط الحاصل اليوم حول المهاجرين “المسلمين” في “أوروبا المسيحية” لن تغادر بلدان المتوسط أماكنها على الخريطة. إيطاليا المتوسطية ستبقى في مكانها رغم محاولات اليمين الأوروبي طي صفحة المتوسطية، ومصر ستظل في مكانها دولة متوسطية رغم محاولات اليمين الإسلامي لمحو ذاكرتها المتوسطية.
ستظل تقرأ كالفينو بمتعة مثلما تقرأ نجيب محفوظ، وكلما خنقتها الصحراء سترتدي الأبيض وتعطي وجهها للبحر تتطلع نحو سماء مشتركة ذات زرقة صافية
ترجم المقال وصدر في كتيب معرض تورينو للكتاب عام 1015