صناعة اسمها «الرعب من الهجرة غير الشرعية»

img_4755

الرعب مما يسمى”الهجرة غير الشرعية” صناعة سياسية يدعمها اليمين الأوروبي بإحصاءات سليمة في الحقيقة حول معدلات النمو السكاني غير المتوازنة بين شاطئي المتوسط والتذكير بتجارب الصراع الحقيقية بين الشاطئين من احتلال العرب للأندلس إلى الحروب الصليبية والصراع مع الإمبراطورية العثمانية والصدام بين إمبراطورية ابن لادن والإمبراطورية الأمريكية، ليخلص في النهاية إلى سيناريو “أسلمة أوروبا” في المستقبل القريب.

هذا الرعب لن يساهم في حل المشكلة، لأن المرعوبين ومثيري الرعب في الضفة الأوروبية لم يطرحوا على أنفسهم سؤالاً بسيطًا يبحث عن إجابة أمينة: هل أغلقت أوروبا شبابيك قنصلياتها في بلاد الشاطيء الجنوبي بسبب تفاقم ظاهرة الفرار من الجنوب إلى الشمال أم أن إغلاق الأبواب كان أحد العوامل التي ساهمت في هذا الفرار؟

الواقع يقول إن كل سكان جنوب المتوسط  لم يهاجروا إلى شماله عندما كان الحصول على تأشيرة دولة أوروبية متاحًا حتى أواخر الثمانينيات من القرن العشرين.

كان السفر سهلاً، ولم يحدث ما تتخوف منه أوروبا الآن.  وكان من المألوف أن يسافر طلاب الجامعات في الصيف للمساعدة في جني المحاصيل الزراعية والفواكه، ومن حصيلة عملهم يقومون بجولة سياحية في البلد المضيف ويشترون بعض الملابس ويعودون لاستئناف دراستهم، وكان من شأن هذا اللقاء السريع أن يخلق تعارفاً حضارياً لا أحقاد فيه.

 صحيح أن الأوضاع السياسية والاقتصادية على الضفة الأخرى تسير من سيء إلى أسوأ، كما أن قدرة الخليج العربي على استيعاب العمالة العربية الفائضة تتقلص، ولكن صعوبة تأشيرات أوروبا ساهمت في جعلها مرغوبة أكثر من ذي قبل، و من الصعب على من دخل هذه الجنة أن يرتكب خطيئة التفريط بالإقامة فيها.

في محطة وقود بميلانو، طرق زجاج السيارة فلاح يقترب من الستين، يرتدي الجلباب البلدي ذي الأكمام الواسعة وينتعل بُلغة مصرية. كان واضحًا أنه عرف من سحنتي وسحنة زميل طفولتي الذي أخذني في جولة بالمدينة أننا مصريين، وتصورت أنه تائه  سيمد يده بعنوان لنرشده إلى طريقة الوصول إليه.

جاء من ناحيتي وأنزلت الزجاج؛ فإذا به يسألني إن كنت أعرف مكانًا يحتاج إلى عامل. لم يعلق صديقي متشاغلاً بتسديد ثمن البنزين واعتذرت للرجل بأننا في زيارة سريعة ولا نعرف شيئًا في المدينة.

في ترددي على ميلانو عرفت فلاحين مثله جاءوا إلى إيطاليا أميين، لا يعرفون القراءة أو الكتابة بالعربية، ولكنهم غيروا ملابسهم، وتمكن بعضهم من التقاط اللغة، لكن هذا الرجل جاء في زمن تضاءلت فيه فرص العمل بعد أن صارت إيطاليا وجارتاها فرنسا وإسبانيا هدفًا لضغط مغتربين آخرين قادمين من الدول الشيوعية السابقة، ومع ذلك لن يفكر في العودة، وسيواصل العيش على الاستدانة من أقاربه في ميلانو حتى تبتسم له المدينة في مصادفة سعيدة. إنه مثل العالق على الحدود بين عالمين متحاربين.  وللأسف ليست الحرب، بل التعاون والتواطؤ بين حكومات شمال وجنوب المتوسط هو ما أنتج كل هذا العدد من النازحين. وإن شئنا أن نسميها حربًا؛ فهي حرب الطرفين ضد الإنسان.

يروج اليمين الغربي أن أوروبا مجرد ضحية غزو الضعفاء الباحثين عن العمل ومن قد يندسون بينهم من الإرهابيين، وهذا غير صحيح؛ لأن الرأسمالية الغربية كانت تستفيد من العمالة الرخيصة الموصومة بعدم الشرعية طوال العقد المتمم للقرن العشرين،  حيث تبلغ تكلفة ساعة العمل منها أقل من ربع سعر ساعة العمل النظامي أو الشرعي، وبين الحين والحين كانت الدولة تفتح باب التسجيل للإقامة القانونية لأهداف أمنية وللحصول على حصتها من عرق المغتربين في شكل رسوم واشتراكات تأمينية، وفي تلك المناسبات كان أصحاب الأعمال يستفيدون من عمالهم ببيع عقود العمل الصورية باهظة السعر، على اعتبار أنها  المرة الأخيرة التي يستفيدون فيها من عمالهم.

““““““

من كتاب «العار من الضفتين»