في ذكرى النصر.. طرف من خبر سمير يوسف الذي مات مرتين

سمير يوسف
سمير يوسف

كتبت هذا المقال في القدس العربي سبتمبر،  في أول أكتوبر ٢٠٠٦حيث تزامنت وفاة سمير يوسف، أحد أبطال أكتوبر الذين  لا يشار إليهم إلا في بطولة جماعية موحدة،  إذ لا تتسع سجلات المجد إلا لأسماء معدودة للقادة، وإذ لا تنتبه الاحتفالات إلى البطولات الأخرى، بطولات الأمهات والآباء الذين فقدوا أبناءهم في الملحمة الوطنية التي صارت بعيدة، وكاشفة لبؤس الواقع!

لا؛ لن أكتب عن نجيب محفوظ حتي ولو كنت تتوقع مني ذلك. ولن أكتب عن باريس التي زرتها للمرة الأولي في حياتي؛ مع ان لدي أشياء لطيفة يمكن أن أقولها عن صدمة النظافة، لا صدمة الحداثة التي لم تتجاوز توقعاتي من كثرة ما قرأت عن باريس وما رأيت منها عبر الأفلام وشاشات البث.

سأكتب ـ واعذرني ـ عن ابن خالي سمير، ليس لأنه ابن خالي؛ فلدي الكثير من أبناء الخؤولة والعمومة أكثر، ربما، مما يمكن لكاتب أن يحتمل. لكن سمير هو ابن الخال والصديق ذو الجسد السمين والروح الثمين، هو الموسيقي وإن لم يلحن، والشاعر وإن لم يكتب. كان لفرط كسله أو تواضعه يفضل تلقي هذه المباهج من الآخرين بدلاً من إنتاجها.

515

وقد فاجأني سمير، قبل أقل من اربع وعشرين ساعة من عودتي إلي القاهرة بموته الثاني الكبير، بينما لا أستطيع الآن إحصاء ميتاته الصغري خلال السنوات العشر الماضية.

سمير في ميتته التي كنت أتمني ألا أثقل عليك بها ـ فهو ليس ابن خالك علي كل الأحوال ـ هو أحد ضحايا حرب الإبادة التي يتعرض لها المصريون دون أن يتضامن معهم بسببها أحد، وربما دون أن يتضامنوا مع أنفسهم وهم يتساقطون جماعات في حوادث مرور أو فرادي نتيــــجة للأوبئة المتوطنة في أكبادهم خصوصاً، وإلي هذا النوع الأخير تنتمي ميتة سمير الأخيرة.

ميتته الكبيرة والكاملة الأخري كانت عام 1973 عندما كان ضابطاً مجنداً علي الجبهة  في مواجهة أعدائنا القدامي أصدقائنا الجدد، وكان من بين المحاصرين في ثغرة الدفرسوار التي قللت من بهجة النصر، وأطارت برجين من رأسي أم سمير وأبيه، وقد صار في عداد المفقودين. وبعد أن صار موته واقعاً تصرف والده كرجل كظيم وأعد ترتيبات العزاء، واشتري ما يلزم المعزين من بن طازج ومأكل ومشرب. لكن سمير أفسد العزاء وعاد من الحصار حياً، وأكثر قدرة علي تثمين الحياة وأكثر رغبة في عيشها.

سمير في سيرته العملية رجل عدالة يري جوهر العدل في الجمال، والبنت الجميلة هي (أحلي حاجة في الدنيا) بعدها يأتي الطعام الحلو، والموسيقي والشعر والرواية، ربما في منزلة واحدة. ولو عرف الذين شهدوا بنزاهته ممن وقعت خصوماتهم بين يديه أسرار روحه، ربما أمكنهم الإساءة إلي سيرته المهنية برشوته بألبوم جديد لفيروز أو شريط للشيخ إمام منسوخاً بطريقة بدائية، أو قصيدة مهربة لمظفر النواب او رواية جديدة لماركيز.

لكن لحسن الحظ أنهم لم يعرفوا سره. وقد تكفل بذلك بنفسه لنفسه عندما كانت حركته تسمح. وعندما بلغ وهن وثقل الجسد مبلغه بعد اكتشاف داء الكبد، ظهرت أهمية أن يكون لسمير أصدقاء وأبناء عم وعمة يسافرون ويحملون إليه البومات الموسيقي والكتب الجديدة.

كانت هديتي المدهشة الأخيرة له، شريط فيديو لمظفر النواب في أمسية سويسرية، وكان أهدانيه الشاعر علي الشلاه ذات لقاء في المغرب. رأي مظفر للمرة الأولي يلقي قصائد يحفظها سمير عن ظهر قلب.

وكنت سعيداً لأنني إذ أحمل هذه الهدايا لا أجامل قريباً ، صار صديقاً، وإنما أرد ديناً لواحد من أوائل من نقلوا لي حب التمدن والتثقف في قريتي قبل أن أغادرها.

وكنت أتمني أن يعيش سمير حتي أهديه ألبوماً غنائياً غجرياً حملته إليه من رومانيا التي كانت محطتي الأولي قبل باريس، لكنه كان قد أكل دسماً للمرة الأخيرة. وكان شرط الأطباء لكي يعيش سمير أكثر أن يكتفي من البنات بالنظر وأن يتنازل بالكامل عن متعة الأكل، مكتفياً بالجبن منزوع الدسم والملح. لكن محال الطعام قريبة، لا بعيدة كالمكتبات ومتاجر الموسيقي. وإذا كانت قلة فقط تستطيع أن تلبي حاجات القراءة والسماع والمشاهدة لديه، فإن أي أحد يستطيع أن يجلب الكباب من أقرب مطعم، بل إن المطاعم أدخلت خدمة التوصيل إلي المنازل غير المعتمدة حتي الآن في مكتبات مصر.

يضحك سمير المضطجع علي سريره بالمستشفي وهو يحكي لي: طلبت نصـــف كيلو كباب وأكلته وسلمت نفسي للمستشفي.

أصبح يتوقع نوبات الغيبوبة بعد كل خروج علي قيود الأطباء ويذهب ماشياً قبل أن يُحمل، لكن الغيبوبة سريعا ما تأتي موتاً كاملاً يعود منه بعد يوم أو أقل أو أكثر.

لكنه في المرة الأخيرة لم يعد.

ولأن الحياة تسير، وأحد أهم محركاتها الموت نفسه، فإنني لم أتفرغ لسمير أكثر من يومـــين لأدخل في موت نجيب محفوظ.

التحقت بزملائي في جريدة أخبار الأدب مساهماً في عدد خاص عن عميد الرواية الذي رحل. وأثناء الانهماك في العمل يباغتني أحدهم بحضوره أو مهاتفة: البقية في حياتك.

وللحظة أتصوره يعزيني في مصابي الخاص، وإذا بي أكتشف أنه يعني نجيب محفوظ، فأتقبل عزاءه صامتاً، وإن آنست منه انتبــاهاً أقول له: في الحقيقة، لقد مات سمير يوسف.

ورأيتني مثل حوذي تشيخوف الذي فقد ابنه ولم يجد من بين أزواج آذان زبائنه طوال اليوم أذناً واحدة تستمع لبلواه فأخذ يشكو لحصانه عندما حله من العربة آخر الليل.

ولست ألوم أحداً، فلا يمكنني أن أُلزم غيري بمعرفة ما يعنيه ابن خالي، كما لا يمكن أن ألوم فيروز لأنها لم تنتبه إلي أن عشاقها نقصوا واحداً في تمام الخامسة من صباح الإثنين الماضي، فلربما كانت نائمة في تلك الساعة المبكرة.