لاعب كرة، كاتب، تاجر مخدرات، ديكتاتور، مناضل، هذه هي نوعية الرجال الذين يتوقعهم العالم من الأرجنتين وأخواتها من دول أمريكا السمراء، ولذلك كانت مفاجأة العالم قوية حين انتهى المجمع المقدس للكنيسة الكاثوليكية إلى اختيار بابا من أصل أرجنتيني في مارس الماضي، ولم يلبث أن تأكد للجميع أن الدم الخلاسي حار حتى لو جرى في عروق كاهن!
تواترت الأنباء عن الحبر الأعظم فرنسيس لتؤكد أن رأس الكنيسة يكاد يكون شيوعيًا. قبوله للآخر وإحساسه بآلامه يبدو جبلة أصيلة لديه. يتحدث عن الفلاحين الذين يصنعون الحياة، يأمر رجال الكنيسة بألا يعيشوا كالأمراء، يصلي لضحايا زلزال أندونيسيا وقتلى زوارق الموت على شواطىء لامبيدوزا. إحساس بالأخوة الإنسانية يجب ألا يكون غريبًا على رجل دين، لكنه يبدو مفاجئًا بعد سنوات البابا الألماني اليميني الذي كاد أن يكون عنصريًا.
استخدم البابا فرنسيس وصف ‘العار’ في حديثه عن مأساة المركب الذي تحطم أوائل أكتوبر الماضي، وعن هذا العار أكتب، وليس عن البابا. فاجأني الوصف وأسعدني أن يشترك معي البابا في استخدامه؛ فـ ‘العار’ هو العنوان الذي منحته لكتابي عن الظاهرة المؤسفة، وكنت انتهيت من الكتابة قبيل تفتح أولى زهرات الربيع العربي وصدر أوائل عام 2011. وبتسامح ساذج توقعت موت الكتاب قلت:’ كتاب يموت لا يهم، بوسعي كتابة غيره’.
تصورت أن الربيع سيمنح الشباب الأمل والحق في بناء بلادهم ويمنعهم من الفرار في زوارق الموت، ويصبح العار صفحة من الماضي، لكن الشباب اليائس كان أكثر بصيرة ولم يتوقف عن الفرار. التفتت إيطاليا في منتصف 2011لتكتشف آلاف التونسيين يجوبون جزيرة لامبيدوزا، تسلل معظمهم إلى الجزيرة القريبة من الشواطيء التونسية وقت انشغال الجيش والشرطة بأحداث الثورة.
لم ينتظروا هم أو غيرهم من شباب بلاد الربيع كثيرًا ليعرفوا أن الموت على مسافة واحدة منهم؛ في ميادين الثورة وفي زوارق الموت، بينما المسافة إلى الحياة مختلفة؛ هي مجرد عرض البحر للمسافر المحظوظ عندما ينجو ويصل إلى الشاطيء الآخر، بينما تتطلب سنوات طويلة بعد الثورة بافتراض النجاة من رصاص القناصة في ميادين الحرية ورصاص الإرهابيين في باص أو في حفل عرس بكنيسة.
وهذه المعادلة هي التي تجعل الموت في عرض البحر مقياسًا صالحًا لقياس معدل اليأس في هذا البلد أو ذاك.
‘ ‘ ‘
هذا الشهر، ارتفع منسوب عار الموت في مياه البحر. ودخلته شعوب جديدة لم تحترف هذا الموت من قبل.
شمل الموت السوريين واللبنانيين الذين لم يركبوا الزوارق الخطرة من قبل. تاريخيًا هم الأسبق إلى الهجرة، لكنهم كانوا يستقلون السفن الآمنة إلى الأمريكتين. الآن، عرف الشعبان طريق الموت في عرض البحر، موت بملء الإرادة لمرة واحدة بدلاً من الموت المتكرر في كل لحظة تشردًا أو عيشًا هشًا وسط الخطر.
لم يعد يوم يمر دون حادث غرق على الشواطيء الإيطالية أو حادث إحباط محاولة تسلل من شواطيء مصر أو تونس أو المغرب، وغالبًا ما توقع عملية الإنقاذ ضحايا برصاص حرس الحدود، خصوصًا إذا تمسك ركاب الزورق بحلمهم وحاولوا الإفلات ومواصلة الرحلة.
‘ ‘ ‘
في فيلم IL DIVO يقول جوليو أندريوتي للبابا ‘أبانا، إنك لا تعرف عن الفاتيكان بقدر ما أعرف’. ومن الطبيعي أن يعرف البابا عن إيطاليا أقل مما يعرف عن الفاتيكان ويعرف عن العولمة أقل مما يعرف عن إيطاليا. لذلك سيبقى استنكاره للعار مجرد استنكار لجريمة يتبرأ منها الغرب.
من السهل تحديد القتلة على ضفتنا، أولئك الذين لم يتركوا مجالاً للأمل في حياة أفضل، لكن من الصعب تحديد الفاعل على الضفة الأخرى، لكنه بشكل عام نظام الرأسمالية الذي قرر إغلاق حدود الشمال في وجوه مسافري الجنوب.
وللسخرية فإن هذا الإغلاق بدأ مع موجة العولمة التي فتحت الحدود على مصراعيها، لكن في اتجاه واحد فقط، حيث حرية انتقال بشر الشمال وسلعهم إلى الجنوب، بينما يدفع من يموت تحت قدم إيطاليا لسماسرة السفر بين خمسة وعشرة آلاف دولار من أجل مغامرة التسلل إلى أوروبا. ولو كان الطريق مفتوحًا، لصار بوسع المسافر أن ينتقل بوسيلة آمنة ويحمل بقية المبلغ في جيبه ليكفيه شهرًا أو شهرين يبحث فيهما عن عمل، فإن وجده يبقى، وإن لم يجد يرحل بعد أن يتأكد أن الجنة ليست على الضفة الأخرى، ويكون البلد الأوروبي قد استفاد سائحًا رغم أنفه بدلاً من ورطته الحالية في تكلفة انتشال ودفن الجثث وعلاج المصابين وترحيلهم. لكن أوروبا لا تريد أن تفتح أبوابها، طالما لا تجد من يواجهها بحصتها في المسئولية عن هذا العار، وبوسع القتلة من كبار الرأسماليين أن يتسابقوا مع البابا في الأسف على أرواح الضحايا، لكن الأسف لا يكفي لإعادة ضحية إلى الحياة أو منع الزورق التالي من الغرق.
“““““
نشر هذا المقال في القدس العربي بتاريخ ٢٦ أكتوبر ٢٠١٣ ولم يزل منسوب العار في تصاعد.