“الصورة لا تكذب” واحدة من أكثر المقولات تضليلاً في التاريخ، مرت دون تمحيص وتعاملت الدنيا معها باعتبارها حقيقة محايدة لا تقبل التشكيك، بينما هي على العكس من ذلك تستطيع تزييف الواقع والانحياز لوجهات نظر بعينها واستبعاد أخرى، حسب زوايا التصوير وحجم اللقطة والعديد من المؤثرات الفنية التي تصل إلى حد بناء المشهد لالتقاطه.
الصورة، باختصار، وحش يأكل القصص؛ حيث تتركز القضايا الكبيرة الخطيرة والمربكة في صورة. وليس شرطًا أن تكون الصورة المختارة هي الأفظع.
كل صورة من هذا النوع تتوفر لها أسباب تعمل على انتشارها دون سواها، لكي تقدم للضمير العالمي المرتبك خدمة تلخيص القضايا المعقدة، لكنها لا تقوم بهذا التلخيص إلا لتلتهم القصة الأصلية وتنشيء قصة أخرى مكانها، قصة أقل إيلامًا، وأقل أمانة بالضرورة.
آخر الصور التي من هذا النوع، صورة طفل كوباني “آيلان” الذي ابتلعه البحر ثم طوح به على شاطيء تركي بينما كان مع أسرته يحاولون الهرب إلى اليونان استعدادًا لجولة أخرى، تنتهي في “كندا” التي سبق أن رفضتهم، لكن الرحلة انقطعت في بدايتها بمأساة.
ومثل صورة محمد الدرة التي التهمت قصة الانتفاضة الثانية، بل قصة الاحتلال، وصورة طفل بورما الذي يرضع من ثدي أمه الميتة، والتهمت قصة العنصرية في بورما، فإن آيلان طفل هو الآخر. وللطفولة في اللاوعي المسيحي علاقة بالطفل الإلهي يسوع، لكن صورة آيلان لا تخلو كذلك من عناصر جمالية. تم تصويره على الشاطئ بكامل أناقته، حتى الحذاء لم يفلت من قدميه. منكفئًا على الأرض كما لو كان يحلم، وهذه هي الوضعية الهنية التي تحرص الأمهات على وضع أطفالهن فيها عقب الرضاعة لعلاج نوبات الانتفاخ. والخلفية البحر، الذي يبدو جميلاً بفراغه، لا مخيفًا كما يبدو في الصور التي تتضمن قاربًا يغرق بركابه.
طفل ميت، لكن المرهفين يمكنهم أن يروه نائمًا، وهكذا اشتهرت صورة آيلان، وأكلت في طريقها مليون قصة. تقول التقديرات إن ضحايا الصراع السوري وصل في يناير الماضي إلى ثلاثمائة ألف، وأن الضحايا من الأطفال حتى نوفمبر 2013 كان 11240 طفلاً (أحد عشر ألف آيلان) وراء كل منهم قصة موت قد تكون أقسى من قصة آيلان، لكن صورته وحده التهمت كل القصص، وهو غير مستفيد بالطبع؛ فالموتى لا تنفعهم شهرتهم، لكنها تفتح للقتلة أبوابًا للفرار.
حجب آيلان، أول ما حجب موت شقيقه وأمه اللذين ذهبا معه، حجب موت المئات الذين يغرقون على الشواطئ بين أسبوع وآخر، حجب حتى صورة طفل درعا “حمزة الخطيب” الذي مثّل النظام بجثته في يونيو 2011 وصار أيقونة للثورة السلمية السورية.
صورة آيلان التهمت قصة حمزة، والتهمت معها القصة الأصلية. وهذا هو باب الفرار للقتلة. وباب الفرج للنفاق السياسي الدولي الذي يكره القصص الأصلية، ويشارك مجرميها في إخفائها، لأنه شاركهم في صنعها.
الآن، تُقدم القصة السورية باعتبارها قصة نزوح، ويختلف الخبراء حول توصيف السوريين الفارين من بلادهم التي كانت جميلة: هل هم لاجئون أم مهاجرون؟ ولكن سورية لم تضربها كارثة طبيعية. القصة الأصلية هي قصة استبداد، وتطلعات شعب للحرية خرج للتعبير عنها في مظاهرات سلمية تغني، لكن الديكتاتور وارث جمهورية أبيه فتح الباب لدخول المتطرفين كي يقلب المعادلة. الأطراف الإقليمية تمول الحرب والغرب مستمر في بيع السلاح، والحرب مستمرة. وتم اختصار كل هذا في صورة طفل يحلم على شاطئء البحر.