خبير إدارة الموهبة

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

إذا كان لابد من تحديد صفة وحيدة تميز نجيب محفوظ عن كل كُتّاب مصر؛ فهي إتقانه لفن إدارة الموهبة.

كان مشروعه واضحًا في رأسه منذ البداية، وكان قادرًا على الاستغناء عن كل ما يمكن أن يُعطل هذا المشروع، الأمر الذي مكَّنه من إنجاز تاريخ للرواية خاص به، يوازي تاريخ تطور الرواية الغربية.

بدأ بالروايات التي تستلهم التاريخ، وانتهى بالقصة القصيرة جدًا والنص العابر للنوع، الذي يضع قدمًا في أرض الشعر وأخرى في أرض السرد، كما في العملين الأخيرين «أصداء السيرة» و«أحلام فترة النقاهة» وبين البداية والنهاية، نسج على منوال الواقعية الاجتماعية، والرمزية، واقترب من تيار الوعي، واستفاد من التراث. ولم يكن له أن يحقق ما حققه إلا بالكثير من الصرامة والشدة على النفس، وعلى الغير كذلك!

اختار نجيب محفوظ النأي بنفسه عن الشأن العام، بخلاف عميد الأدب العربي طه حسين، الذي قام بأدوار حاول من خلالها تحقيق رؤيته الاجتماعية للتعليم الذي ينبغي أن يكون كالماء والهواء، وقد دفع أثمانًا كبيرة من راحته وسمعته، بسبب مواقفه الفكرية والسياسية.

هذا الالتزام تجاه المجتمع مارسه كذلك توفيق الحكيم ويوسف إدريس وعدد كبير من الأجيال الاحقة من المثقفين بدرجات مختلفة، وعرفوا بسببه الكثير من أشكال التضييق بما فيها السجن، لكن نجيب محفوظ، نأى بنفسه، ولم يشترك حتي في توقيع بيان.

وعندما أقدّم هيكل على مبادرته التي لا تخرج إلا من رجل كبير وذكي، بتخصيص طابق في جريدة الأهرام لكبار الكُتاب، لم يشترط عليهم التزامًا محددًا، بل سعى إلى مجرد وجودهم، مدركًا أن هذا الوجود بحد ذاته يضيف إلى رأس المال الرمزي للصحيفة، وترك لمن يريد أن يكتب حرية اختيار دورية ومساحة كتابته.

وبينما اختار كل من توفيق الحكيم ويوسف إدريس كتابة صفحة كاملة أسبوعيًا، استهلكت الكثير من طاقاتهم في الحرب ضد التخلف الديني والفساد، اختار نجيب محفوظ أن يكتب بروازًا صغيرًا تعبره العين دون أن يعلق منه شيء بالذاكرة. مرة أخرى نحن أمام خيار التخلي عن النضال اليومي، مما يمكن اعتباره شدة ضد المجتمع وتخليًا عن دور الكاتب، وفي الوقت نفسه يمكن اعتباره استغناءً عن النجومية التي توفرها الصحافة بأسهل مما يفعل الأدب، وفي كل الأحوال فهذه القناعة بمجرد «تأدية الواجب» في الصحافة تعبير عن وضوح الهدف، وهو الاستمرار في كتابة الرواية.

 لم يبتعد نجيب محفوظ عن الصدام مع السلطة فحسب، بل مع الأفراد كذلك، فلم يدخل في خصومة تستنفد طاقته، ولا يعني هذا أنه كان متسامحًا مع ما يوجه إليه من نقد، بل كان يحتفظ بطاقة الغضب لتظهر في الكتابة، ولا تتسع هذه المساحة لتعداد مواضع تعبيره عن رأيه في السلطة برواياته، أما لكماته المرتدة للخصوم الثقافيين فتبدو واضحة في «أحلام فترة النقاهة» التي تستحق قراءة خاصة من هذه الزاوية.