للكاتب الراضع من حليب الأبالسة باتريك زوسكيند قصة قصيرة بعنوان “هوس العمق” ترجمها الصديق العذب طلعت الشايب، وتحكي ببساطة عن فنانة شابة تقيم معرضها التشكيلي الأول، فيدخل ناقد كبير إلى المعرض ويدلي بملحوظة عابرة، واصفًا الفنانة بأنها “موهوبة، لكن ينقصها بعض العمق” وبعد هذه الملاحظة لم توجد جريدة أو إذاعة أو محطة تليفزيون إلا وتناولت معرض الفنانة الموهوبة “التي ينقصها بعض العمق” حتى أصيبت الفنانة بالاكتئاب واعتزلت الدنيا، وانتهت إلى إلقاء نفسها من النافذة، فكتبت الصحافة عن انتحار فنانة كانت “موهوبة، لكن ينقصها بعض العمق”. أتذكر هذه القصة دائمًا، مع كل واقعة يقوم فيها القطيع بابتذال عبارة أو مفهوم ما.
ولا يوجد مفهوم تم ابتذاله هذه الأيام مثل مفهوم “قوة مصر الناعمة” منذ طرحه محمد حسنين هيكل. وبالطبع، لا تكمن المشكلة في الأستاذ السبّاق إلى معرفة الأفكار الجديدة وتعريبها والتفاعل معها، بل تكمن في مقلديه، مثلما لا يمكن أن يحمل الناقد التشكيلي الكبير مسئولية انتحار الفنانة في قصة زوسكيند.
تاريخيًا يعود الفضل في بلورة المصطلح إلى جوزيف ناي الذي أشار إليه في كتابين هما “وثبة القيادة ـ 1990” ثم “مفارقة القوة الأمريكية ـ 2002” قبل أن يكتمل المفهوم في كتاب “القوة الناعمة ـ 2004” ولا يعني هذا أن المفكر السياسي الأمريكي ناي أول من لاحظ عناصر القوة غير العسكرية، فالأمر مفهوم وواضح منذ عرف البشر العيش في مجتمعات ودول، هو بلور المصطلح فحسب، من خلال ملاحظته للواقع الدولي معتبرًا أن القوة الناعمة تعني “القدرة على تحقيق الأهداف عن طريق الجاذبية والسحر بدلاً من الإرغام”.
ومنذ تحدث الأستاذ هيكل عن “القوة الناعمة” ذاع المصطلح وأصبح من العادي جدًا أن تحول من قناة تليفزيون مصرية إلى أخرى لتجد من يتحدث عن “قوة مصر الناعمة” أو تجد رئيس الوزراء يخاطب الفنانين بقوله “أنتم قوة مصر الناعمة” بل تجد فضيلة المفتي يصف الأزهر بأنه “قوة مصر الناعمة”.
ومن الواضح أن المفهوم على بساطته لم يصل على النحو الصحيح لمعظم من يخوضون فيه، فالسحر والجاذبية يتحققان من كل عناصر العمق الثقافي. من الكتاب، الفيلم، الموسيقى، من صناعة الأزياء وجمال النساء، وتاريخ مقهى الفيشاوي، واعتصام يوسف شاهين، وتعريض أحمد فؤاد نجم نفسه للضرب في مظاهرة (رحمهما الله) كما تتحقق القوة الناعمة في سجادة يدوية من أخميم، وكذلك من بريق الحرية، أي أن نقوم بثورة ولا يكون شبابها في السجون، وأن يقف الفنان في الشارع معترضًا لا أن يجلس في مؤتمر مؤيدًا، فكل الدول التي نريد التأثير فيها لديها فنانون مؤيدون، كذلك فبريق الأزهر في استقلاله على الضد من وعاظ السلاطين في أي مكان.
والأهم من كل هذا، أن كل هذه العناصر تتجمع ونحن عنها ساهون، ننتج فنًا جميلاً لنستمتع به فيتصادف أن يلاقي إعجابًا في محيطه العربي، نناضل لنعيش أفضل فيتبعنا الآخرون إلى طريق النور. لكن الأمر يبدو وكأننا بصدد تشكيل ألوية من المدرعات الناعمة هدفها السيطرة على محيطنا العربي، وإذا جاز جدلاً إمكانية حدوث هذا؛ فينبغي ألا نكشف عن سلاحنا، وإلا ستتحول قوتنا الناعمة إلى نكتة مثل نكتة المطار السري.
أظن أننا بحاجة إلى مراجعة مفهوم “القوة الناعمة” وتخليصه مما علق به من خشونة وصلف، وتزويده ببعض عمق لن يضر.