لا يمكن لشخص أن يفك فرامل سيارته، قبل أن يستقلها، ثم يتوقع أن يعود سالمًا، لكن السلطة بوسعها أن تفعل ذلك وتقود بكل سعادة، وتنتظر السلامة. تهندس الانتخابات لكي تضمن أن أحمد لن ينافسه إلا الحاج أحمد، تدفع بمن يشتري قنوات تليفزيونية قائمة وبمن يؤسس قنوات جديدة، تستبعد منها أي صوت يرتفع منبهًا إلى اصطدام وشيك، أما من يتجرأ ويقف في الشارع ليهتف ضد قرار ما؛ فأمره على قانون التظاهر ومنفذيه الأشداء.
وفي غياب الكوابح، أصبح من السهل أن تتوالى الإجراءات المدهشة، من تعويم للجنيه إلى ضريبة القيمة المضافة إلى زيادة أسعار الكهرباء والمواصلات وغيرها، وفوق كل ذلك إطلاق إعلانات التبرع المسعورة، لتستخرج بإثارة الشفقة الفكة التي تتبقى في جيب المواطن، بعد ما أخذته الزيادات القهرية في الأسعار. وفي المساحة الزمنية بين إعلان وإعلان، برامج تقدم التبريرات التي تبدو معممة على القنوات والصحف من مصدر واحد. ولا يجد المبررون الوقت لكي يغيروا في جملة هنا أو هناك، وتأتي الأوصاف واحدة دائمًا؛ فهي الإجراءات الضرورية والمؤلمة، وهي الدواء المر الذي يجب أن نتجرعه، وأحيانًا هي الصمود الشهم في مواجهة من يريدون تركيعنا!
من درس هذه القرارات، وما تأثيرها وما حجم الألم الذي سينتج عنها، ومن الذي سيتألم بالتحديد، ومن المدعو للصمود، بعيدًا عن نون الجماعة المضللة؟ وهل خطورة الدواء تقتصر على مرارته فحسب أم أن فيه سم قاتل؟ هذه الأسئلة تطرحها عادة الكوابح الديمقراطية المتمثلة في البرلمان والأحزاب والإعلام الحر والمظاهرات السلمية، وكلها أدوات بقدر ما تحد من حرية السلطة بقر ما تمنع انهيارها.
السلطة لا ترى نفسها مطالبة بتفسير، ولا يبدو أنها حسبت ما يجب أن ينقفه الموظف والعامل الصغير للذهاب إلى عمله قياسًا إلى أجر يومه بعد أن تزيد تكاليف انتقاله، ولا تبدو منتبهة إلى أثر ضريبة القيمة المضافة أو أثر تضاعف سعر الدولار على وضع المنتجات المصرية في السوق الداخلي والأسواق الدولية. لكنها تعرف بالتأكيد أن نون الجماعة مضللة، وأن مقولات مثل “نتحمل” و”نتألم” لا تنطبق على جميع المصريين. لا الأثرياء سيتأثرون بزيادة الكهرباء، وربما لن يتأثر المعدمون، لأنهم لا يستخدمون الكهرباء إلا في حدودها الدنيا، أو يستخدمونها على نفقة غيرهم. ستتأثر الطبقة الوسطى فقط، وبتعبير أدق: سيتأثرالمستورون، الذين سيخضعون للضرائب التي تنزلها بهم الحكومة وزيادات الأسعار التي ينزلها بهم الأثرياء، وستزيد عليهم إكرامية البواب والساعي وإتاوة سايس الشارع، كما أن هؤلاء المتدثرين بالستر هم المستهدفون بإعلانات التسول التليفزيوني، مع كل الاحترام لشهامة الست زينب، صاحبة الحلق الفكاهي!
سترفع الإجراءات غلالة الستر عن الفئة الأكثر نشاطًا ووعيًا بالمجتمع، المتروكة للغضب، وهي ترى الأكثر غنى فائزًا بعقل السلطة والأكثر فقرًا متمتعًا بعطفها. ولهذا فإن “المر” ليس الكلمة المناسبة لوصف الإجراءات الاقتصادية المتلاحقة، بل يجب أن يقال إنه الدواء السام. وكان من الممكن أن يُصبح أقل سمية لو سبقته الإجراءات الضرورية، من استعادة الأموال المنهوبة على قاعدة لا تؤسس لفساد جديد، وإعلان الحقائق في قضايا الفساد المثارة، مثل قضية توريد القمح، كما يجب تحريك الحد الأقصى للضرائب إلى ما فوق الثلاثين بالمئة بدلاً من عشرين، وكان يجب وضع حد أقصى ملزم للمرتبات.
وإذا تطلب الأمر أن يتجرع المواطن المستور السم بعد هذه الإجراءات؛ فسوف يتجرعه راضيًا.